أسئلة ليبيا
بشير مفتي
عندما شاهدت من خلال بعض القنوات العربية والأجنبية ما سمّي بسقوط طرابلس في يد الثوار الليبيين وتحريرها من الطاغية، انتابني شعور مزدوج بالفرح والخوف. فبرغم التهليل الكبير لهذا النصر الذي حدث على واحد من أعرق الطغاة في هذه المنطقة، إلا أنه لم يكن واضحاً بما فيه الكفاية. اعتبر البعض المتابعة الإعلامية أنها تنتمي الى الحرب الدعائية أكثر منها إعلاماً يريد أن يعرض حقائق الوقائع، وهذا ذكّرنا بما قامت به CNN في حرب الخليج الأولى حيث كان الانتصار إعلامياً قبل أن يكون واقعياً. برغم ذلك فرحت كثيراً. فها هم الثوار يتقدمون نحو نصرهم النهائي، وها هي ليبيا تذهب نحو حريتها التي غابت عنها على مدار أربعة عقود من الزمن، عاشت من خلال صورة نمطية للديكتاتور الذي لخّصها فيه، وجعل نفسه ممثلها الأول والأخير، ففي وعينا ولاوعينا، ليبيا هي القذافي والقذافي هو ليبيا، ولا نستطيع تصور شيء آخر عن ليبيا غير كذلك.
لا أدري لماذا برغم أن ليبيا هي الجارة القريبة للجزائر، مسقطي، لم تنتبني أي رغبة لزيارتها، ولم أفعل ربما لإحساسي بأن بلداً يحكمه شخص مثل القذافي منذ اثنين وأربعين عاماً لن أجد فيه ما يناسب اقتناعاتي، أو درجة حريتي التي أتطلبها في أي سفر أقوم به. ثم إن من زارها من الأصدقاء كان يعود بانطباع سيئ: “بلد غريب”! صحيح أن الكثير من البلدان العربية الرازحة تحت الاستبداد تبدو غريبة لبعض الجزائريين الذين برغم أنهم يعانون هم أيضا من حكم فاسد، وغير مرغوب فيه، إلا أنهم ظلوا يتمتعون بحرية الكلام. فهم يقولون كل شيء يريدون قوله، ولم تستطع أي سلطة مهما كان بطشها حرمانهم هذا الحق الذي اكتسبوه ربما من خشونة رأس الجزائري، أو من تكلفة الدم الباهظة التي دفعها لنيل حريته عام 1962 أو من شبه ديموقراطيته في 1988. لذا كانوا يشعرون بغرابة عندما يزورون بلداناً عربية لا يستطيع المواطن فيها أن يتحدث بحرية كاملة مثلما يفعلون هم عن نظامهم وحاكميهم، وهذا ما كنت أفهمه طبعاً. فلقد شعرت بالشيء نفسه عند زيارتي الأولى لسوريا عام 1990. فاجأتني من المطار لافتة كبيرة: “حافظ الأسد رئيسنا للأبد”. مكثت أسبوعاً تحت طائلة الخوف من قبضة الذين شعرت أنهم يحرسون خطواتك لمجرد أنك صحافي أو كاتب، وتركت البلد غير آسف، مقررا عدم العودة إليه، وبالفعل لم أعد. كنت أكره لو ذهبت ومارست السياحة عارفاً أن المئات يرزحون في سجون هذا النظام، فقط بسبب مواقفهم وآرائهم. كما كنت أرفض حتى مصافحة بعض الموظفين السوريين الذين يأتون الى الجزائر ضمن وفود رسمية، شعوراً مني بما قد تكون لهم من مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة عن دخول مثقفين الى السجن. طبعا سوريا هي هذا وذاك. ومثلما يخضع البعض، يبقى الكثيرون متمردين، فنحبّهم ونحترمهم لهذا السبب.
أعود إلى ليبيا وتحرير طرابلس الذي أشاع فرحاً عاماً بين الثوار الليبيين والعرب المدافعين عن حريتهم اليوم، الى فرحتي أنا أيضاً. ذلك أن الخلاص من استبداد القذافي يفتح أفقاً جديداً لهذا البلد الذي كان من المفروض أن يكون في مقدمة الدول المغاربية حداثةً وتطوراً من حيث إمكاناته الكبيرة وعدد سكانه المحدود، لولا أن الديكتاتور كان آخر همّه تطوير شعبه ومنطقته والدخول في معارك حقيقية من أجل تنمية بلده، بدل كل تلك السياسة التي مارسها بعتهه المعروف وجنون عظمته المرضي.
كان الفرح نابعاً من العاطفة ومن الإحساس بأنها النهاية لمن يظنون أنفسهم فوق طائلة حكم التاريخ، كما تصرّف الحكّام العرب على مدار العقود الفائتة وهم يشعرون بأمان كبير فقط لأنهم يقبضون على شعوبهم ولأن الغرب في صفّهم ما داموا لا يتوانون عن بيع قضاياهم الوطنية والقومية مقابل الحصانة الغربية التي رُفعت عنهم اليوم فتجردوا من أي قوة وبطش. ولعل هذا ما فهمه القذافي وهو يرى حلف الناتو يقف مع جبهة الثوار وليس مع جبهته هو، برغم ما كلّفته عودته الى الواجهة الدولية من مال كبير لشراء سكينته وهدوء كرسيه وبقائه على العرش.
طبعا انهزم القذافي في معقله طرابلس بطريقة مخادعة، حيث كان ينتظر الثوار من البر فجاؤوه بمساعدة حلف الأطلسي من البحر، كما شن الإعلام هجوماً ساحقاً بترويج شائعات، منها القبض على أبناء القذافي وبخاصة سيف الإسلام، الأمر الذي جعل الهزيمة فاحشة وقاسية على من كان يسمّي خصومه الثوريين بالجرذان، ففر هارباً ولم يبق له من مكان يمارس فيه سلطته الخشبية تلك والصوتية بشكل خاص، فانتهى كجرذ متخفٍّ في مجاري المياه حتى لا تفتك به أيدي الثوار الذين لن يسامحوه، ليس على الاثنين والأربعين عاماً التي حكم فيها فحسب، ولكن أيضاً على الرغبة التدميرية التي أراد بها أن يطهر شعبه يوم خرج في أول تظاهرة ببنغازي.
إنها صورة مأسوية بالتأكيد وتعبّر عن حجم الوضع المأسوي الذي تعرفه ليبيا منذ بداية انتفاضة الثوار المسلحين وتدخل حلف الأطلسي كسند في المعركة. لا أحد يصدّق بالطبع أن هذا الحلف جاء من أجل عيون الليبيين أو لإنقاذ أرواحهم برغم أن الشعارات هي نفسها التي استعملتها إدارة بوش عندما قررت قلب نظام الحكم في العراق وإطاحة الديكتاتور صدام حسين.
لا أحد سيلوم الليبيين طبعاً على هذا الخيار في الاستناد إلى قوة خارجية لإطاحة نظام كنظام القذافي، لأن البلد بلدهم ولا أحد سينصّب نفسه وصيّاً عليهم، ولكن من شأن هذه الخطوة أن تكلفهم غالياً في السنوات اللاحقة وقد تزرع البلبلة والشقاق في ما بينهم.
لقد راهن القذافي من جهته على هذه الخطوة، حتى وإن كانت السبب المباشر في دحره وهزيمته، وسيحاول أن يعطي مشروعية لقتال الغربيين والكفار وإشعال نار الحرب القبلية وليس الأهلية بين مختلف القبائل الليبية التي لا أظن أنها ستخرج بسهولة من غريزة الثأر القبلي في ما بينها، الى وجود حركات جهادية متطرفة، مما قد يفتح الباب واسعاً لمخاوف كثيرة في المنطقة.
الاحتمال الوارد أن ليبيا لن تكون قوة عسكرية تهدد أحداً في المستقبل، وهي ستدخل ضمن الدول الضعيفة عسكريا وسيكون حكمها السياسي بالتأكيد مدنياً ومتعدداً، وستكون مناطق البترول آمنة في طبيعة الحال، والأفق الليبي محكوماً بحماية أمن خارجي، ما سيعطي حلف الأطلسي دوراً كبيراً في القيام بهذا الدور.
الاحتمال المرغوب فيه، إعادة بناء مجتمع منفتح ومتعدد وديموقراطي، يتأسس على قيم الحداثة والمواطنة، بحيث تستعيد الحياة الطبيعية مكانتها فلا تكون السلطة الليبية الجديدة تحت وصاية الغرب، بل مستقلة بالفعل وعاملة على ترسيخ الحرية والعدالة والتطور.
سقوط القذافي لا يعني سقوط ليبيا بالتأكيد، لكن توجد إرادات كثيرة ستتصارع حتما، ونحن ننتظر أن يفوز الأكثر وطنية وحرية على الأكثر شراً وإجراماً.
النهار