أسئلة متزاحمة لأجوبة عصيّة لم تُطرح بعد..
غادا فؤاد السمّان
أن تكون سورياً خارج الضدّين، هذا لا يعني أنّك ستُبدي حُسنا لأحسنهما، بل ستحفظ بحيّزّك الشخصي، صامتاً، بغاية التأمّل، وربّما متمتماً بغاية الذهول، إذ ليس ما يجري يشبه طموحك الذي حفر أخاديده كما الخلد داخل شرايينك على مدار السنين الصعبة، وليس كقافلة النمل حمل أثقال رؤاك وتصوراتك الباهظة على امتداد طول خطوط التفكير وعرضها، تتذكّر أهدافك جيّداً، هدفاً تلو الآخر..
‘الحرية’ نعم كانت ولا تزال مطلبَك الشخصي ومطلب جميع شعوب الأرض التي ترزح تحت السماء الموصدة بالأزرق، هل فكّر أحدهم أن يتحرر من هذا السقف؟ أليست الزرقة نهاراً والسواد ليلاً هي حكم من الأحكام المبرمة؟ إذاً ما من حرية مطلقة على الأرض، هناك حرية تحتاج وباستمرار إلى تعريف، ودراية، وتجربة، وخبرة، ووعي، لكن ما من أحد في هذا الكون المحكوم باللونين أعلاه يقول انّ الحرية تحتاج إلى ‘جنون’، ولو أنّ الجميع تقدّموا خطوة واحدة واعية ومتماسكة باتجاه المعنيين في الدولة السورية لكان من السهل زحزحة المدماك العالق الذي يُمارس سلطة وسطوة بجنوح أحياناً وبتمادٍ مرّات، ثاني الأهداف التي كانت نصب أرقنا المتواصل، أوجاع ‘الكرامة’ التي لم تكن العلاجات الآنية تجدي معها، حيث كانت تحتاج إلى علاج جذري متين، علاج مبنيّ على التكافؤ والتكافل والاحترام، وهذا العلاج لا يتقنه الجهلة في الأسلوب، والمبتدئين في السلوك والغارقين في الأوهام حاملين في قرارتهم عدوى ‘البارانويا’ التي كانت تحتاج بدورها إلى تفهّم من جهة وردع من عدّة جهات متبقّية، وقبل أن أسترسل في رصد الأهداف، أتساءل هل فات الأوان لعلاج الواقع، وقد تداخلت السلطة بالتسلّط، وتفاوتت القوى بالأقوى، فمن يقود من؟ ومن يتآمر على من؟ ومن يدمّر من؟ ومن سيغلب من؟ ومن ينتصر على من؟ هل صار القدر مجرّد إشارة استفهام؟ علامة تعجّب؟
فاصلة بين مشهد رعب ومشهد مريع؟ نقطة دمّ لا تجّف آخر السطر؟ وهل صارت الإجابة حرف علّة محذوف بأداة الواقع، أو جملة اعتراضية ممنوعة من التصّرف بمنطق؟
اعتمد لبنان مؤخّراً وفي زحمة الأحداث وأكداس المواقف سياسة النأي بالنفس، هل هناك خيارالنأي بالرأس؟ النأي بالحرف؟ النأي بالتوقّع؟ النأي بالحدس؟ النأي بالعواقب؟ ولكن كيف السبيل للنأي بالعواقب؟ أليست العواقب كالطوفان تأتي من حيث نحتسب ولا نحتسب؟ أليس بوسع العواقب أن تستجرّنا جميعاً شئنا أم أبينا لغرق مسمّى؟ هل الهدف الانخراط داخل متاهات ‘الدوامة’ التي رسمتها العبقرية كوندوليزا رايس ودخلتها الشعوب العربية بفوضاها المزمنة لتطبيق النظرية من دون عناء؟ وبأدنى جهد من أسياد الأزمة الاقتصادية العالمية الذين وجدوا مبتغاهم في تأزيم العالم العربي لترميم المأزق الاقتصادي الذي يهدّدهم بالانهيار فاستباحوا تجارة السلاح على يد سماسرةٍ طيّعين، مرنين، في تأدية الأدوار المرسومة لهم بمهارة وطواعية فائقين.. وإذا كان ثمّة صرخة محتومة ولا بدّ منها في غمرة هذا الغرق الشامل، فلمن يُمكن أن نطلقها؟ ومن بوسعه أن يتلقفها؟ ومن مصلحة من أن يعتمدها؟ فالتاجر يبحث عن مزيد من الخراب ليوسّع دائرة الاحتمال في الاستثمارات الممكنة، هناك مرحلة ما بعد السلاح مرحلة الردم وبعد الردم هناك مرحلة الإعمار.. والإعمار مناخ خصب للكثير من السلع التي ستدخل مرحلة المنافسة وتساهم بافتتاح الأسواق السوداء الجديده، والتجّار في هذه المرحلة يتهافتون من كلّ حدب وصوب منهم من حمل شعلة المثقف، ومنهم من حمل قلم المبدع، ومنهم من حمل نظارة المفكر، ومنهم من حمل عصى الفيلسوف، ومنهم من حمل همّ الثكالى والمفجوعين، ومنهم من حمل مجداف الخوض الاجتماعي ومنهم من حمل مفاتيح النبوّة للفردوس الموعود، ولكن ما من أحد منهم حتى الآن تجشّم عناء البحث عن منطق، إذ أنّ أبسط الحقوق الإنسانية الردّ بموضوعية على سؤال مؤجّل يتلخّص بكلمة واحدة لا غير ‘وآخرتها’؟
فإذا ببغاواتٍ لا تحصى تردّد: ‘شهرين مو أكتر’ ويغالي آخر ‘بل أسبوعين مش أكتر’ ثم ينعق آخر’ياجماعة روؤوا يومين ع الأكيد’ وتعاقبت الأيام والأشهر والأسابيع ونكاد ندخل العام الثالث لنكبة وطن، لم يحقق حتى اليوم سوى الكثير من الدمار والخراب والقتلى والجرحى والمشردين والمعوّقين والمفقودين والمعتقلين والأسرى، ولا يزال الشعار الأجوف ‘لا ـ حوار- ‘، لم تكن السياسة في يوم من الأيام تحمل وجهة نهائية بل لطالما حملت الكثير من المرونة والاحتمالات، ربّما كان بوسعي أن أفهم منطق اللاحوار، لو كان هؤلاء المتزمتون بوسعهم أن يضعوا أولادهم وبقايا عائلاتهم في معترك الصراع ويصرّون على قناعاتهم من دون تردّد، ولكن أن ينؤوا بأنفسهم وبعائلاتهم بعيداً ويساومون على أبناء الشعب السوري هنا وهناك، فهنا قمّة الخديعة، ومن حقّ الشعب المعني بالتصفية وحده وبالشقاء اللامعقول أن يقول كلمته باستفتاء حيادي، ماذا يريد؟ ومن يريد؟ هل حقاً ‘مجلس النفاق’ أقصد ‘الوفاق’ الوطني قادر على درء المزيد من الأعوام الكارثية؟ هل النظام قادر على تسليم قيادته من دون هدر المزيد من الدم وإزهاق المزيد من الأرواح؟ هل الشعب قادر على الانحياز لأحد الأطراف من دون أن يعاني الضغط والأمرّين؟ هل بوسع الشعب أن يحدّد البديل الاستراتيجي للطرفين؟
أعلم أنّ ورقتي هذه متخمة بالأسئلة، ولو أنني كنت أنتمي لأمّة تقرأ لكنت على يقين أنّ عناويني البريدية ستتخمها التوقعات والإرهاصات والبوادر، لكني على يقين أن مآل هذه الورقة بكل ما فيها من اشتغال للذهن واشتعال للنبض سيكون مآلها لماسح زجاج أو بائع سندويش بأحسن الأحوال، لتظلّ أسهم الشاشة الصغيرة وحدها في ازدياد المعلنين عليها والمساهمين معها وعدّاد الموت وحده هو الذي يعمل وجميعنا بعقول إمّا معطّلة أو مُضطربة، في حال كانت أو لا تزال….
القدس العربي