أسباب فقر الخيال عند جماعة الإخوان
عمار علي حسن *
لا تمتلك جماعة الإخوان المسلمين قدرة على «التخيل». وهي تجري مدفوعة كعربة طائشة نحو نهاية فكرتها، وتحولها إلى سلطة غاشمة متجبرة وغبية. لم تقدم الجماعة للحياة على مدار تاريخها مفكراً بارعاً أو أديباً مبهراً، بل كانت دوماً طاردة لأمثال هؤلاء. فهم إن التحقوا بها في شبابهم الغض معتقدين أنها لن تقف أمام طاقتهم الإبداعية وقدراتهم الفردية، سرعان ما يهجرونها حين يجدون أنها جدار أصم يقف أمام خيالهم ورغبتهم في التفكير خارج القوالب الجاهزة والصناديق المغلقة التي كتب على جبهتها العُلْوية: «السمع والطاعة».
ليس جينياً
ولا يمكن لمن عليه أن يسمع ويطيع، ولا يُعمِل عقله بدعوى أن قادة الجماعة يعرفون أكثر، أو أنهم أعلى إخلاصاً للمصلحة العليا، أو أن الله يلهمهم صواب الرأي وسلامة الاتجاه، أن يأتي بأفكار مغايرة. وبمرور الزمن، يتم الاتكال على الغير، فتتراخى القدرة على التفكير، بل تضمر الملكات العقلية المبدعة لقلة استعمالها وشحذها باستمرار، وفق قانون «التحدي والاستجابة». الدكتور محمد حبيب، نائب المرشد، الذي استقال من الجماعة، أكد لي أن كثيراً من الإخوان يكتفون بقراءة النشرة «المجمعة» التي تأتيهم من مكتب الإرشاد كل أسبوع، وفيها ملخص للأخبار والأحداث وتعليق عليها. وقال لي: «كتبت سلسلة أسميتها رسالة إلى الإخوان، زادت على الخمسين رسالة، وكنت أسلمها لمسؤول عن توزيعها في الجماعة، وذات يوم سألته: هل شباب الإخوان يقرأون هذه الرسائل؟ فضحك وقال: لا. وأمام دهشتي واصل كلامه: حتى رسائل المرشد لا تقرأ. وعندها أدركت حجم المأساة التي نعيشها، فأفراد الجماعة سلموا رؤوسهم للنشرة المختصرة البائسة، ولا يعرفون شيئاً من خارجها».
كان هذا قبل تمدد ثورة الاتصالات، حيث الإنترنت والفضائيات، التي أدمجت شباب الإخوان، كغيرهم، في حركة الاطلاع على كل جديد. وربما عزوف أفراد الإخوان عن قراءة ما يكتبه حبيب أو المرشد وقتها، مهدي عاكف، كان بتعليمات من الرجلين التنظيميين القويين، محمود عزت وخيرت الشاطر، اللذين كانا حريصين على أن يمسكا بكل الرؤوس. لكن ما شرحه حبيب يبقى ذا دلالة قوية على أن الأغلبية الكاسحة من الإخوان لا يجذبها الشغف إلى المعرفة الإنسانية، وليست لديها استعداد ظاهر لتنويع مصادرها.
والفقر في التخيل والتفكير لدى الإخوان لا يعود إلى قصور عقلي بالقطع، إنما تقف خلفه جملة من الأسباب العلمية والفكرية والنفسية والتنظيمية، التي تراكمت بمرور الأيام.
لا تنظير
هذا أول الأسباب. تكره الجماعة المنظرين والفلاسفة ومنتجي الأفكار المجردة، وترى أنهم يشكلون خطراً داهماً على «التنظيم»، الذي يجب أن يكون على وحدة في القول والفعل. ولهذا لا تحتفي الجماعة بـ«العلوم الإنسانية» بالقدر الذي تمثله في حياة الناس، ويشعر الإخوان أن ما لديهم من مقررات دينية وتربوية كاف لفهم كل شيء وكل إنسان. وقد يفسر هذا أمرين، الأول: هو أن أغلب النخبة الإخوانية من دارسي العلوم التطبيقية أو العملية، من أطباء ومهندسين وتقنيين، وهؤلاء تجذبهم الجماعة إلى حقل السياسة فيتناسون بمرور الزمن تخصصهم الرئيسي أو لا يطلعون على الجديد فيه، ولذا لا نجد من بين الإخوان حالياً طبيباً كبيراً ولا مهندساً بارعاً، على العكس مما كان عليه الحال في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين. وقد حكى لي الأستاذ جمال البنا كيف كان من بين الإخوان عشرة من كبار الأطباء أيام مؤسس الجماعة حسن البنا، بينما تراجع مستواهم في السنوات الأخيرة لانشغاله بهموم التنظيم. وأمثال هؤلاء يدركون أن مستقبلهم داخل الإخوان ليس بقدر ما يحصلون عليه من علوم تطبيقية أو بمستوى تقدمهم مهنياً إنما بقدر إخلاصهم للتنظيم وقادته. وبعض أطباء الإخوان يستمرون في أعمالهم، ليس فقط لكسب العيش وتدبير احتياجات أسرهم، إنما أيضاً لاستغلال هذه المهنة في بناء شعبية، ترفعهم فيما بعد ليصبحوا أعضاء في البرلمان.
وحتى لو وجد من بين الإخوان من يمتلك قدرة على إنتاج الأفكار، فسرعان ما يتم إشغاله بشؤون التنظيم فتتراخى هذه القدرات لديه بمرور الزمن. ويطلق سامح عيد، الإخواني السابق، في كتابه «الإخوان المسلمون: الحاضر والمستقبل» على هذه المسألة «ذوبان القيادة الثقافية داخل العمل التنفيذي والإداري»، ويقول: «كثيرا ما تُختار النخب المثقفة لقيادة العمل التنظيمي فيضعف العمل التثقيفي».
أما الأمر الثاني، فهو خروج المنظرين سريعاً من صفوف الجماعة. وقد كنت شاهداً على تجربة بعض كبار الباحثين في العلوم السياسية من ذوي الميول الإخوانية، وكيف ذهبوا إلى الجماعة عارضين عليها أفكارهم، وراغبين في تطوير أفكارها، فما كان من التنظيميين إلا أن لفظوهم، ولم يلتفتوا إلى إنتاجهم، وحذروا الأتباع منهم. وربما يعطي سامح فايز، الذي التحق بالإخوان منذ نعومة أظافره ثم خرج عليهم في شبابه، مثلا على هذا حين يبين في كتابه «جنة الإخوان: رحلة الخروج من الجماعة»، أن البرنامج التثقيفي للإخوان يرمي إلى صناعة إنسان لا رأي له، ويقول: «كان من الصعب على الطفل الصغير إدراك أن تلك الأوراد والأذكار والصلوات والكتيبات التي امتلأت بها جدران مكتبته الصغيرة ليست في الأصل كي يصير شيخاً تقياً، إنما هي وضعت ليكون إخوانياً مطيعاً».
إسلامية المعرفة
لا تعددية ثانياً. فرغم تفاعل الإخوان، سلبياً أو إيجابياً، مع الأفكار والتصورات الأخرى المتداولة في السوق الثقافية، فهم يتوهمون أن فكرتهم هي الأفضل والأرقى والأصوب، وأن من الأجدى أن تهضم فيها كل الأفكار، أو تستسلم لها، ليصير لدينا «طريق فكري واحد». وينسحب هذا في التعامل مع كل العلوم التي يجب أن تنضوي تحت مسار واحد باسم «إسلامية المعرفة»، وهي في النهاية محاولة إخضاع الآراء والإبداعات الإنسانية لرؤية فريق واحد، هي من رأسه هو ومن تأويله للنص الإسلامي أو تعاطيه معه. ثم يزعم أنها الإسلام، الذي يجب أن تصطبغ به كل العلوم، رغم أن هذا يتناقض جملة وتفصيلا مع ما يأمر به القرآن الكريم من تفكُّر في خلق السموات والأرض، وإطلاق العنان للعقل كي يفهم ويرتب ما ينتج عن هذا التفكير في اتجاهات لا حصر لها، حتى إذا آمن الإنسان يكون إيمانه عن اقتناع وإجلال.
وهذه «الواحدية» الفكرية أو الثقافية لا تحفز على إعمال الخيال، إذ يكفي فقط أن يقوم من يتبنى هذا الاتجاه إما برفض أي فكرة تتناقض مع ما يعتقد، أو يخضع كل الأفكار المختلفة معه لقياس على ما في رأسه ظناً منه أنه القاعدة الصلبة أو الحقيقة الناصعة، أو يعيد صياغة كل ما يرد إليه كي يتهندس وفق هواه وتصوراته، حتى لو فقد هذا الوارد سماته وخصائصه الذاتية. ويتحول هذا «الفكر الواحد» بمرور الزمن إلى «صندوق مغلق» تحبس داخله الرؤوس ولا تستطيع أن تخترقه لتفكر في كل ما يقع خارجه.
طريقهم رباني
« ثالث الأسباب هو توهم الإخوان أن انتصارهم حتمي لأن طريقهم رباني ومعركتهم مقدسة، اتكاءً على اعتقادهم أنهم يمثلون الاسلام ويجسدونه في معناه ومبناه. ، يشعر أعضاء الجماعة وأتباعها بالاستغناء عن أي فكر أو منهج خارج ما تتبناه، وإن طالعوا المختلف معهم، فإنهم يفعلون ذلك بعين الناقض وليس الناقد أو الراغب في الاستفادة، المقبل على العلم بعقل متفتح، من يعرف «الرجال بالحق ولا يعرف الحق بالرجال».
فالإخواني المطيع لا يجد حاجة ماسة أو ملحة لمطالعة مع يختلف مع فكر الجماعة، ولا يتملكه ولع بالمعرفة أو شغف بها خارج الكتب والكتيبات والنشرات التي تبقيه مربوطاً في السلسلة الحديدية للتنظيم. وكل من خالف هذا هجره الإخوان أو خرج عنهم غير آسف عليهم.
وليس معنى هذا أن العقل الإخواني فاقد تماماً القدرة على التخيل، لكن تخيله يظل محدوداً ليس فقط بكراهية التنظير، والولاء للتنظيم فقط، ورفض التعددية، والإيمان بحتمية الانتصار، إنما أيضاً بالوساوس القهرية والشك العميق في الآخرين والشعور الدائم بالاضطهاد والعيش في كنف المؤامرة والخوف من التغيير. كما أن الخيال الإخواني ذو نزعة تبريرية، إذ يعمل في تبرير سلوك الجماعة، ويمكنه أن يصنع الأكاذيب، وهي نوع من التخيل، بغية الدفاع عن الفكرة والموقف والاتجاه.
* روائي وباحث في علم الاجتماع السياسي من مصر