أسد.. والناس من تحتك عدد/ محمد حجيري
غداة تشييع باسل الأسد، نجل الرئيس السوري حافظ الأسد، بعد مقتله في حادث سير العام 1994، وقف أحد الشعراء اللبنانيين على المنصة يلقي قصيدة في مديح آل الأسد فقال: “أسد والناس من تحتك عدد”. انتبه كثر الى هذه العبارة الفاشية وباتت مثالاً صارخاً على إدانة الشاعر اللبناني. نسيت قصيدة المناسبة وبقيت منها هذه العبارة شديدة الوقاحة، راسخة في الأذهان لشدة وطأتها. في تلك المرحلة لم يكن السوريون منخرطين في أي معادلة، كان النظام يختصرهم في الرقم “الانتخابي” 99،99 في المئة، بل يختصرهم في عبارة “سوريا الأسد”.
مع بدء الثورة السورية أو الاحتجاجات، واشتعال الأحداث الدموية وتنامي الجماعات المسلحة والتدخلات الدولية، تحول المشهد في سوريا إلى “أسد والناس من تحتك عدد” فعلاً، لكن بشكل مأساوي ومرعب ومقزز، سواء في أوساط المعارضة أو الموالاة. والعدد هنا لا يتعلق بـ”جماهير شعبنا” كم يسمونهم، ولا بـ”الناخبين” بل بعدد القتلى الرهيب، اذ لا تكف المراصد ووسائل الاعلام عن رصد عدد قتلى البراميل المتفجرة والعمليات الانتحارية وتصفيات داعش والاقتحامات، هذا الى جانب رصد العدد الإجمالي للقتلى في سوريا، وبينهم عدد ضخم من الجنود والشبيحة العلويين، الى درجة أن وسائل الاعلام بدأت تتحدث عن قرى علوية بلا رجال، ومجتمع من العوانس والأرامل، وهذا بات يشكل أزمة اجتماعية في سوريا.
وعلى هذا، لم يكن غريباً أن يطلق ناشطون من الطائفة العلوية، حملة بعنوان “صرخة وطن تعب من الطائفية والدمار والقتل”. هي “صرخة من وإلى الشارع العلوي لإيقاف الحرب الطائفية في سوريا”. هي حملة ضد بقاء الأخير في الحكم واستنزاف أبناء الطائفة في حرب الدفاع عنه، وهي مستمرة منذ أكثر من سنوات ثلاث. وفي صفحتها الرسمية في “فايسبوك”، عرضت تنسيقية “صرخة”، عشرات الصور لمنشورات ورقية معارضة للأسد تم توزيعها في عدد من شوارع وساحات مدينة طرطوس الساحلية. وحملت تلك المنشورات، التي رفع بعضها أشخاص لم يظهروا وجوههم في الصور المعروضة، عبارات مثل: “الكرسي لك (الأسد) والتوابيت لأولادنا!”، و”الشارع بدو يعيش”، “حتى البحر تعب وبدو يعيش بسلام”. وهناك بعض الأقوال والمَشاهد، مثل وضع بطاقات الشبيحة القتلى، وكتابة عبارة “هذا حال شبيحة الأسد، يموتون ويتركون بطاقاتهم وأنين عائلاتهم، والأسد ما زال في قصره”.
وبرغم مأساة أهالي القتلى العلويين، ومعظمهم من فقراء الساحل السوري، وبرغم أهمية الشعارات المرفوعة في حملة “الصرخة”، لكنها لم تلق التجاوب المطلوب لناحية الانضمام الى صفحة “صرخة”، اذ بقي عدد المنضمين إليها خجولاً مع أن الصحافة العربية أعطت هامشاً لا بأس به للحملة. ويرجح أن يكون عدم تجاوب أكثرية العلويين مع الحملة، سببه ولاؤهم الطائفي/الأقلوي وخوفهم من الآخر أولاً، وثانياً بسبب خوفهم من بطش النظام، حتى إن بعض اعضاء الحملة نفسها لجأ الى الاسماء المستعارة خشية اعتقاله أو الاعتداء عليه.
والصرخة.. تعبير فعلي عن مكنون الناس في الساحل السوري، لكن الأمر الواقع يفرض نفسه، والدم يفرض نفسه ومسيرة القتل والقتال مستمرة لأنها، بزعم بعضهم “حرب وجود”.. وربما تكون خاتمتها اللاوجود لأي شيء، لا حجر ولا بشر.
مسألة الحديث عن التوابيت لا تقتصر على سوريا وحدها، فالعديد من جمهور “حزب الله” ومناصريه في لبنان كتبوا في أوقات متباعدة عبارات غاضبة، حين يكون لهم أقارب قتلى في المعارك السورية، لكنهم لا يقدرون على التمرد بسبب ولائهم المذهبي والطائفي أولاً (والذي تعززه الأزمات المستمرة)، الى جانب الحملة التعبوية التي قام بها السيد نصرالله من أجل الحرب في سوريا ثانياً. وذلك تحت مسميات مختلفة: مرة للدفاع عن اللبنانيين المقيمن في سوريا، ومرة ثانية لحماية المقامات المقدسة، ومرة ثالثة لمواجهة الفكر التكفيري القادم الى لبنان. واللافت أيضاً أن قتلى حزب الله في سوريا، تحولوا مجرد أرقام أو توابيت على الأكف. كان “حزب الله”، أيام حربه ضد اسرائيل، يجعل لكل شهيد من شهدائه قصته وسيرته وصوره ومشاهده التلفزيونية، ويبثها مراراً باعتبارها ملحمة مثالية وقدوة للأجيال الجديدة. وفي حربه السورية يبدو مثل “بالع الموس”، شبانه تحولوا أرقاماً في خدمة الأسد، يتم نعيهم عبر “فايسبوك” وتنشر صورهم بشكل خجول على عدد من السيارات وعلى بعض عواميد الإنارة.. وكأنما خلُدت عبارة “أسد والناس من تحتك عدد”.
المدن