أسطورة المؤامرة في الإعلام السوري
عبدالله تركماني
في عصر المعلوماتية والفضائيات المفتوحة على حقائق الصور المعبّرة يبدو واضحاً، منذ بداية اندلاع التظاهرات الشعبية المطالبة بالحرية والكرامة والمواطنة في 15 مارس/آذار الماضي، أنّ إصرار السلطة السورية على استبعاد وسائل الإعلام العربية والدولية من الحضور، وكذلك منع منظمات حقوق الإنسان الإقليمية والدولية من رصد الانتهاكات في المدن السورية، وإصرارها على أن تكون الراوي الوحيد والمعتمَد على ما يُرتكب من فظائع الشبيحة وقوات الأمن، تعني أنها ترتكب من الآثام الكبيرة والجرائم المروعة مما لا تريد له أن يصل إلى العرب والعالم الخارجي فيُفتضح أمرها وتتأكد جرائمها، وتفتقد شرعيتها، وتدنو ساعة رحيلها.
إذ فور اندلاع الحراك الشعبي بادرت الماكينة الإعلامية باعتماد نظرية المؤامرة، وهي نظرية لا تغيب عن الأدبيات السياسية السورية الرسمية إلا لتطل كلما لاحت بوادر أزمة ما، كما أنها تنفق الكثير من وقتها وأموالها وكوادرها لتضليل الناس والتشويش على الإعلام الحر: تبتدع شهود عيان مزورين، وتنتج مواد مصورة ملفقة، وتضع واجهات مراكز دراسات استراتيجية لتسويق نظريتها في وسائل الإعلام العربية والأجنبية، بل تحاول اختراق المؤتمر التشاوري للأصدقاء من نشطاء ومثقفي الشأن العام المعارضين في فندق سمير أميس بدمشق.
وعندما تلجأ السلطة إلى منع وسائل الإعلام العربية والعالمية من تغطية الأحداث كشاهد محايد، وعندما تمنع هيئات حقوق الإنسان من الوصول إلى ميادين المدن والبلدات التي استخدمت فيها الدبابات والمدافع الثقيلة والمروحيات واستُخدم فيها الرصاص الحي والتعذيب – حتى ضد الأطفال – لنقل الصورة الحقيقية، فإنها في حقيقة الأمر تؤكد أنها عقدت العزم – منذ بداية الحراك الشعبي – على ارتكاب جرائم بشعة، مما يقتضي إبعاد الشهود ومنع كاميرات الفضائيات.
فقد أعقب سياسة الرد بالقوة والاعتقال البدء بحملات إعلامية، ركزت فيها الأجهزة الإعلامية الرسمية على فكرة المؤامرة والتدخلات الخارجية، قبل أن تبدأ الحملة الكلام عن ” العصابات المسلحة ” و ” الإمارات السلفية ” ذات الشعارات الطائفية، وصولاً إلى الكلام عن عمليات استهداف الجيش والقوى الأمنية.
إنّ الإعلام السوري يعيش في العصور الحجرية وكأنه لا يعلم بأنّ العالم أصبح قرية صغيرة بفضل التقدم الهائل في تكنولوجيا وسائل الاتصال المتطورة والحديثة، خاصة المواقع الإلكترونية للتواصل الاجتماعي. ومما يؤكد فشل هذا الإعلام أنه إما جاهل في كيفية التعامل مع الأحداث أو أنه أداة تستقبل ما يؤمر به وينفذ فقط، أي أنه جهاز لا يختلف عن أجهزة الأمن التي تفرض عليه ما يقول وما يرسل عبر التلفزيون السوري. وعلى سبيل المثال نسمع كثيراً أنّ بعض ” المتآمرين ” نفّذوا في بعض المدن السورية أعمالاً تخريبية، أو أنّ بعض ” المندسين ” في صفوف المتظاهرين استخدموا الرصاص ضد التظاهرات، أو أنّ بعض ” العملاء ” قاموا بحرق المنشآت العامة واعتدوا على أملاك الدولة. ولم يضع الإعلام الرسمي في اعتباره أنّ مثل هذه الادعاءات – إن صحت – لابد من توثيقها بالصوت والصورة وهي مهمة الإعلام الحديث اليوم، أما أن يكتفي بهذه الأقوال في ظل غياب الشفافية فإنّ مصداقيته ضعيفة. وبين يدي الإعلام العربي والعالمي اليوم ما يكفي من الوثائق والأرقام والأسماء والفيديوهات التي تكذِّب السلطة السورية وإعلامها.
ففي البداية ادعى الإعلام السوري أنّ وراء التظاهرات جهات خارجية، فاعتُقِل أحد الناشطين المصرين وأُجبِر على الاعتراف، كما نقل التلفزيون السوري الرسمي، بأنه عميل لجهات أجنبية، ولكنّ السلطة السورية اضطرت لإطلاق سراحه بعد أيام لأنّ لديه جنسية أمريكية، وقد تحدث الرجل حين وصل إلى القاهرة عما حدث معه فسقطت ألاعيب السلطة السورية.
كما قدم مراسل وكالة ” رويترز ” للأنباء سليمان الخالدي، في 27 مايو/أيار الماضي، شهادة عما يجري في سورية من تعذيب للمتظاهرين، قائلاً: ” كان الشاب معلقاً من قدميه ومتدلياً رأساً على عقب وتسيل رغاوي بيضاء من فمه وكان أنينه غير بشري. هذا مشهد من مشاهد كثيرة للامتهان الإنساني التي رأيتها خلال استضافتي بالإكراه في المخابرات السورية حين اعتقلت في دمشق بعد أن قمت بتغطية أنباء الاحتجاجات في مدينة درعا بجنوب سورية “.
أما الباحثة البولندية باتريسيا ساسنال فقد قالت في رسالة خاصة أرسلتها لرئيس تحرير الموقع الإلكتروني ” كلنا شركاء في الوطن ” في 3 يوليو/تموز الجاري: أود أن ألفت انتباهكم لكيفية قيام وكالة الأنباء الوطنية السورية ” سانا ” بتشويه تعليقات حول حلقة دراسية عقدت في وارسو الأسبوع الماضي حول ” ربيع العرب “. إذ أشارت ساسنال، التي تختص في سياسات الشرق الأوسط في المعهد البولندي للشؤون الدولية، إلى أنها قالت بأنّ النتيجة الأكثر احتمالاً هي ” أن ينجو النظام السوري من هذه المرحلة، رغم أنه سيكون أضعف بشكل كبير… “. لكنّ ” سانا ” نقلت عن لسانها ” إنّ سورية ستجتاز الأزمة التي تمر بها وهي أكثر قوة “.
وهكذا كان التضليل ينضح من كلمات الإعلام السوري الرسمي، ومن أشداق محطاته التلفزية والإذاعية، وكان جهد العاملين فيه، وجهد من يقف وراءهم، يتركز على فبركة واقع لا يمت إلى واقع سورية بصلة، ينقسم السوريون فيه إلى ” أقلية مضلَلة ومجرمة وقاتلة ” لا بد من تصفيتها، وأغلبية مخلصة طيبة قدر ما هي بريئة، من الضروري إنقاذها، بـ ” سفك دماء الأقلية المجرمة “. وهذا الواقع المصطنع والوهمي تترتب عليه نتائج عملية على قدر استثنائي من الخطورة، أقله أنه يدعو السوريين إلى قتل بعضهم بعضاً.
لقد خسرت السلطة الأمنية معركتها الإعلامية، إذ أنها لدلالة رمزية بالغة الأهمية أنه لأول مرة في تاريخ سورية المعاصر يستطيع إعلام الثورة الشعبية أن يفضح الإعلام الرسمي ويهزمه بأدوات بسيطة، ولكنها عصرية وذكية وماهرة وذات مصداقية عالية. فقد امتلك الثوار الشباب الأداة التي تمكّنهم من نقل صورتهم وصوتهم على نحو لم تعد فيه هذه الصور داعمة لخطاب أيديولوجي ما، بل باتت هي الخطاب في حد ذاته. وهكذا فالعالم اليوم يعرف حقيقة ودموية وفظائع ما تقوم به السلطة وأمنها وشبيحتها ضد الشعب السوري الموحد والأعزل والمسالم، ولذلك لم يعد في إمكان العديد من دول العالم تجاهل ردود فعل شعوبها.
وعليه، لا بد من وقف إعلام الدم والتحريض، إذا كان يراد للأزمة السورية الراهنة أن تُحل في أجواء من العقلانية والتوافق والحوار، وكانت هناك رغبة جدية في تفكيك البنية الأمنية للسلطة والانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية بما يرضي الشعب السوري.
إنّ منع الإعلام العربي والعالمي من مواكبة انتفاضة الشعب السوري العظيمة سمح ويسمح بتجاوز عتبة المصداقية المهنية، ويضع السلطة السورية أمام أشباح تقاتلها بأدوات الإعلام الرسمي العقيمة. وفي الواقع فإنّ التركيز على نظرية المؤامرة من قبل الإعلام السوري لا يخدم النظام، بل العكس تماماً، ففي هذا القول الدائم إشارة ضمنية إلى تخلّي السلطة عن مسؤوليتها الأساسية في حماية مواطنيها، وملاحقة الشبيحة، لأنها هي المسؤولة أولاً وأخيراً عن حماية المواطنين، واستتباب الأمن والنظام، بدلاً من الانخراط في صراع عقيم مع أدوات المؤامرة الافتراضية، والوسائط المتعددة.
وفي هذا السياق يمكن طرح مجموعة أسئلة: لماذا لا يُقتل أحد ولا تظهر العصابات المسلحة خلال التظاهرات المؤيدة للنظام، بل لماذا يُقتل الناس فقط خلال التظاهرات المعارضة ولماذا تظهر العصابات المسلحة في الأماكن التي شهدت تظاهرات واحتجاجات ضد النظام والرئيس بشار الأسد أو طالبت بإسقاطه ؟ ولماذا يصف الإعلام السوري التظاهرات المعارضة بالقليلة العدد ويقدر المشتركين فيها فقط بالمئات، فيما يصر على مليونية أية تظاهرة مؤيدة للنظام ؟ ولماذا يصور التلفزيون السوري، وهو تلفزيون الدولة السورية يشارك كل السوريين في ميزانيته من خلال الضرائب التي يدفعونها، في تصوير التظاهرات المؤيدة على الهواء مباشرة بينما لا يصور تظاهرات الجزء الآخر من الشعب السوري ؟ ولماذا لم تسمح السلطات السورية للصحافة العربية والدولية بالدخول إلى سورية إذا كان هناك متطرفون وسلفيون وعصابات مسلحة، أليس السماح للصحافة ووسائل الإعلام الأجنبية أفضل وأكثر فائدة للحكومة السورية التي ” تتصدى ” للإرهاب والمسلحين التكفيريين ؟
إنّ هذا الإعلام يستمد أسلوبه وتوصيفاته الجاهزة ولغته الخشبية وتعابيره الجوفاء المكررة، التي حفظها الناس ويتوقعونها في كل مرة يظهر مقدم النشرات الإخبارية على شاشة التلفزيون السوري، من فكر النظام نفسه وبنيته الأمنية ونظرته الوصائية لمطالب شعبه وإنكاره لوجود معارضة مستقلة، واستعداده الدائم لنسبة أي تحرك يطالب بالتغيير الديمقراطي إلى نظرية الاستهداف الخارجي.
إنه يعيش عالمه الخاص ولا يوحي بتعاطٍ يرتقي إلى أزمة عميقة تطال جميع جوانب الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية وتهدد مستقبل الدولة السورية، فلا يكفيه أن ينقل موقف السلطة وروايتها كمن يغني في غرفة مغلقة فلا يسمع إلا نفسه. وأمام إصراره على روايته واتهام وسائل الإعلام باستهداف سورية، فإنّ المطلوب من السلطة أن تسمح لوسائل الإعلام بأن تغطي الواقع السوري، وفي هذه الحالة لا يمكن لوسائل إعلام متعددة أن تجمع على تزوير الحقائق، حتى لو أرادت. ومن المؤكد أنه لا يمكنها تجميل وجهها الخارجي بواسطة بضعة مراسلين ينتمون إلى مؤسسات إعلامية بريطانية وأمريكية مختلفة، سمحت لهم مؤخراً بالتغطية الإعلامية برفقة مراقبين أمنيين.
إنّ الثورة السورية تتصاعد وهي تشطب كل يوم أساطير شاعت عن المؤامرة الخارجية، وعن الجهات الداخلية التي كادت تبدو كأنها ميليشيات علنية مسلحة، أو خلايا سرية نائمة استفاقت فجأة لحظة اندلاع الحراك الشعبي. ويبحث نشطاؤها عن أفضل السبل لتفكيك ” مملكة الخوف ” وإعادة بناء جمهورية المواطنة, والانتقال بسورية إلى دولة مدنية ديمقراطية لكل أبنائها.