أشجار الزنزلخت/ عزيز تبسي
-1-
لا تعلم هذه الأشجار التي تتوسط الأرصفة وتشطرها، أن حفيف أوراقها، الذي ما زال يداني نوافذ بيوتهم، ساعدهم على النوم العميق والاسترسال في الأحلام، وأنها لاتزال بيتاً آمناً للعصافير التائهة، وذخيرة يضمرها لونها الأخضر إلى الأيام السوداء، ومسرى للنساء المضرجات بالخيبات، حين يتمهلن أمام جذوعها المتناظرة في أوائل الربيع، وينحنين على ورودها المتهاويات كقصاصات ورق، ليقتبسن من لونهن البنفسجي الخجول، ألوان خيوط الصوف، علهن يحكنها لشتاء قارس، كنزات وقبعات ولفحات لأولادهن. حُملت فسائلها من الشرق، وتوطنت في هذه الأرض، كما توطن قبلها ومعها الكثير من النباتات والزهور والأجناس والثقافات والعادات والعقائد، وأمست تتعرف باسم يحمل معنى أرضها الجديدة: الدردار السوري. احتملت جذوعها غرزات السكاكين، التي تطوى نصالها بعد تجريف اللحاء، لتعود لبراءة القلادات وحمالات المفاتيح، ولكم توجعت من قرع المطارق وثقوب مسامير أصحاب الحوانيت، ليعلقوا عليها بعد ذلك، في الصباح أقفاص عصافيرهم، وخرقهم المبللة التي يمسحون بها أرضية حوانيتهم، والأخرى التي يلمعون بها واجهاتها الزجاجية، ومصابيح كهربائية في أوائل الليل لتزيد من إضاءة واجهات محلاتهم. احتملت فقدان إخوتها، حين تقرر توسيع الشوارع وإعادة تبليط الأرصفة، ومن إهمال أطباء النبات، حينما عجزت عن مواجهة أنماط من الأوبئة والحشرات، تركوها تقاوم لوحدها بخلاصات شفيفة من نسغها، ومصول غبار من تويجات زهراتها. انحدرت العناية بها من مسار قديم، انحنى أهله للتبارك بالنبات الأخضر، واستحضروه كل حين، داخل البيوت الواسعة، على أعالي الشرفات، في زوايا الشوارع والساحات، في سعيهم الدائم للتنزه في الروابي والسهوب. جرى تصنيف فقراء الناس، كحال أشجار الزنزلخت، بعدما اقتضت قواعد الرفعة الاجتماعية، تثمينهم بفائدتهم وقدرتهم على منح المكاسب، بأملاكهم وثرواتهم وموائدهم، ويشيرون بعد ذلك نحوها، لكونها ليست من الأشجار التي تطرح ثمراً يؤكل، غلالها عناقيد من ثمار كروية ملساء، يخشاها من يجهلها، لافتراض أنها سامة، لكنها ليست كذلك. انتمت لسلالة من النباتات التي لا تعطي ثماراً كالمرجانيات وبعض من الصنوبريات والسرو والدفلى.. تمنح الخضرة والظلال والرطوبة، وحين تموت، لا تنسى منح ورثتها جذعها وأغصانها، وهم بمثابة جسدها الذي أرهقته السنون، وجففته.
-2-
ينهضون بفزع، حالما يسمعون قرقعة الأواني المعدنية…كأنهم خارجون من قصيدة الحمال الأعمى للشاعر العباسي ابن الرومي، يركضون بعبواتهم البلاستيكية، بأوعية الزجاج، بأسطل تترنح حواملها المعدنية، بأوان كانت مخصصة للطبخ، غير مدركين في عجلتهم، أن الماء يتسرب من قيعانها المثقوبة ويبلل ثيابهم، متجهون نحو أصوات تؤكد لهم أن صهريج المياه قد وصل، ولأنه لم يصل شيء، يجمعون أوانيهم حولهم، ويسندون جذوعهم على جذوعها. تعبر أمامهم المشاهد المربكة، انتعال الفتيان في شهر كانون الثاني لشحاطات بلاستيك، ارتداء الألبسة الصيفية تحت البرد والمطر. ويبقى دوماً من يتجولون بكامل أناقتهم ينتظرون أحداً يأتي، جاهلين أن من ينتظرونهم غادروا البلد، أو المدينة….يتمهلون تحت الأشجار، يعيدون عقد ربطات أعناقهم، وتفقد المناديل القماشية في جيوبهم، إشعال سجائرهم المطفأة للمرة الرابعة أو الخامسة….تشي أجفانهم المنتفخة باضطرابات الكبد، ونفورهم الدائم بتوغل مرض السكري في أبدانهم. يتحدثون، بكلام آت من زمن آخر، عن قرب الربيع وعن دنو أيام الرحلات المبهجة إلى “جبل الأربعين” و”كفر جنة”، وينزلقون إلى كلام عن أوان ملامسة مياه البحر وتناول أسماكه المشوية، ويشيرون بأذرعهم الممدودة، كما لو أن البحر في آخر الشارع. يسترجعون وهم يتكؤون بأذرعهم على جذوع الأشجار المتناظرة، كما مريض يسترجع سنوات عافيته، ركضهم اللاهث في الشوارع ، قفزهم فوق مقاعد الدراجات الهوائية، ومرورهم المراوغ بين المشاة، صعودهم إلى أعالي العمارة والنزول بعدها ليضحكوا مع الذين ينتظرونهم في الشارع ويحصون أنفاسهم، ركضهم لملامسة البوابة المغلقة للقلعة والعودة لملامسة ذبالة مصباح شحيح في السوق الذي يقابلها، تسلقهم أشجار لا ثمار لها، وأعمدة كهرباء مهلكة.. العبور المدوي لباعة العرقسوس، الخروج الفرح للتلاميذ من المدارس. تستولد الحرب، كل يوم، مصائب عائلية، يحتاجون لقرن قادم ليستردوا ضحكاتهم، ولتمدد طويل تحت شمس استوائية ليخرجوا الرطوبة من عظامهم لا لأنهم عاشوا أكثر مما يجب، وانما لأنهم لم يطعنوا بالحراب ويرموا في الحفر العميقة. ويحتاجون للكثير من الوقت للتجول في الأسواق، حاملين نقودهم التي لم تسرق في محافظ جلدية، ليشتروا الشطائر التي لا تسعها الورقة التي لفت بها.
-3-
تتجاهل نشرات الأخبار عن عمد، وهي تصنف بسخرية “المعارضة المعتدلة” وتضمها كمستحيل، للمستحيلات الثلاثة التي تداولها العرب لقرون طويلة عن الغول والعنقاء والخل الوفي، ترى أما من ضرورة أن تكون السلطات التي تقف خلف نشرة الأخبار معتدلة، كما المعارضة التي تبحث عنها ولا تجدها. ينتصر في الحرب من يمتلك قدرة النوم على الأرض. وجيزة عبارة المؤرخ العسكري المنحدر من الجيش الأحمر ليف نيكولايفيتش غوميليف. ما المقصود بالنوم على الأرض؟ أتراه قصد الانبطاح، أم قصد النوم في جوفها، كما الموتى في انتظار يوم القيامة، أم أهل الكهف في انتظار التحولات في زمن السلطة. لكن أيعد مثل هذا الفعل انتصاراً؟ وكأن سؤال “ما العمل” الذي أنتجه الفكر الثوري الروسي في القرن التاسع عشر، قد تحول في هذه البلاد إلى سؤال أبدي. أيضحكون يوماً، وهم يسندون ظهورهم على الجذوع الدبقة لهذه الأشجار الناجية من الاحتطاب، ويستردون الكلام من هوائه المبدد. -بحضي الحرية كيسي، أو كويسة. -إيه بالله كيسي. يضحكون ضاغطين بأكفهم المفتوحة على صدروهم، ليتداركوا الشهقات التي يسببها هذا الانفعال المفاجئ، غير عابئين بمصير من سبقوهم، وماتوا من الضحك.
العربي الجديد