صفحات العالم

أشجع جيوش العالم!


د. عبدالوهاب الأفندي

(1) ليسمح لي القراء بلحظات في عالم الأساطير الذي يبدو أن حكام سورية يعيشون فيه في عزلة عن كل بقية أهل ‘الدنيا’، ولنصدق معهم رواية تعرض سورية ذات ليلة لغزوة من ‘عصابات إرهابية مسلحة’ قامت، على طريقة أطياف فلم الرعب ‘غزوة خاطفي الأجساد’، بتقمص أجساد مواطني سورية الذين تحول كثير منهم تحت سطوتها السحرية إلى مندسين وعملاء لإسرائيل والسعودية وقطر والقاعدة (فنحن ما نزال في عالم الخيال حيث الكل يجوز). فما يكون واجب الدولة وأجهزة الأمن وقتها؟

(2)

أضعف الإيمان أن يتصدى ‘حماة الديار’ لواجبهم، في حماية الديار من هؤلاء الغزاة والمندسين، فيطهر منهم درعا وحماة وجسر الشغور وإدلب وريف دمشق وحمص وتل كلخ، وكل ربوع سورية سقاها الله، في رمشة عين أو أقل من ذلك.

(3)

جملة اعتراضية: أليس غريباً أننا لا نحيا جغرافيا بلداننا العربية الأثيرة إلا في أيام محنتها؟ في السبعينات، حفظنا أحياء بيروت حياً حياً: الأشرفية، الكرنتينا، عين المريسة، فرن الشباك، الحمرا، إلخ…). وفي الثمانينات ارتحلنا في مدن وقرى فلسطين مع الانتفاضة، وفي التسعينات وما بعدها استكشفنا مدن العراق ونواحيه، وأحياء بغداد. وفي بداية الثورات العربية، سمعنا بسيدي أبوزيد والحوض المنجمي في تونس لأول مرة، ثم سكنا ميدان التحرير وحفظنا كل الشوارع والجسور المؤدية إليه، ثم انتقلنا عبر مدن ليبيا من بنغازي والبيضا وطبرق، إلى أجدابيا والزاوية ومصراته والبريقة فطرابلس، ثم الجبل الأخضر والزنتان. وها نحن نطوف بسورية، وخاصة حمص التي حفظنا أسماء كل حي فيها كأننا هناك.

(4)

مهما يكن، فإن الجيش السوري قد أعد لمنازلة إسرائيل التي هزمت الجيش السوري قبل ذلك ثلاث مرات، رابعتها في لبنان عام 1982، حين قبع جنوده في مخابئهم، وتركوا شارون يسرح ويمرح في أحياء بيروت كأنه في بيته. وعليه فلا يمكن أن تخيفه عصابات مارقة، مسلحة كانت أم غير مسلحة، بل المنتظر منه التصدي ببسالة لهذه العصابات في أيام معدودات حتى يعود إلى سورية الأمن والطمأنينة.

(5)

ولكن ما نراه على أرض الواقع يخالف هذا السيناريو المتخيل. ذلك أن ‘حماة الديار’ يفعلون كل شيء سوى منازلة العصابات في الميدان، ويكتفون بقصف المدن عن بعد بأطنان من القنابل وآلاف الصواريخ، ويقطعون الماء والكهرباء والطعام عن كل المناطق، أملاً في أن يموت أفراد العصابات جوعاً وعطشاً. وحين يتخيلون أن المنطقة خلت إلا من المدنيين العزل، فيقتحمونها كما كان الحال في الزبداني، سرعان ما يولون الأدبار عند أول طلقة. بل بلغ بهم الجبن أن يوسطوا مشايخ الحي حتى يسمح لهم بالانسحاب سالمين. وقبل أيام عرض الجيش السوري الحر لقاء مع جنود أسروا عند أحد الحواجز، وكان الآسر يسألهم: لماذا استسلمتم قبل إطلاق طلقة واحدة وأنتم بحمد الله لا تشكون من نقص في سلاح أو ذخيرة؟ فلم يكن عندهم جواب.

(6)

سواء علينا أصدقنا أساطير النظام المتداعي، أو صدقنا ما تراه أعيننا من أرض الواقع، فإن هناك نتيجة واحدة لا مفر منها، وهي أن هذا أجبن جيش عرفه التاريخ. فهو يعلم أن كل من يواجههم تقريباً من المدنيين العزل، إضافة إلى فئة قليلة من المنشقين ذخيرتهم لا تكفي لأكثر من معركة. ولكنه، رغم أنه مزود بالدبابات والدروع وكل أنواع الأسلحة الحديثة، لا يجرؤ على اقتحام حمص أو إدلب، فزعاً وخوفاً من حفنة من ‘العصابات المسلحة’، ويريد أن يهدم كل بيوت حمص على رؤوس أبنائها قبل أن يجازف بمجرد الدخول إلى شوارعها على دبابة!

(7)

لدينا إذن سؤال بسيط لأحبابنا ممن ينافحون عن نظام ‘الممانعة’ السوري الأسدي (هذا إذا صرفنا النظر عن أن دلالة لفظ الممانعة هي في نهاية المطاف، مجرد ‘تدلل’)، وهو التالي: إذا كان جيشكم الباسل يجبن عن مواجهة النساء والأطفال العزل في حمص وإدلب، فكيف بربكم سيواجه جيش الدفاع الإسرائيلي في الميدان؟ هذه بلا شك أسطورة يصعب التظاهر بتصديقها، حتى في عالم الخيال.

(8)

المسرح العبثي الذي يكابده أهل سورية كان أجدر أن يثير الضحك لولا رائحة الموت التي تفوح منه، فهو فيلم رعب هزلي على نمط فيلم ‘شون أوف ذي ديد’. ففي جانب من الصورة رئيس متأنق الملبس، باسم الثغر، محاط بالمعجبين، يعلن إصلاحات ديمقراطية لا مثيل لها واستفتاء خلال أيام على دستور يتيح لشعب سورية انتخاب من شاءوا. وفي الجانب الآخر، نفس الشخص على هيئة دراكولا أمير الظلام، أنيابه تقطر من دماء شعبه، وهو محاط بشياطين يقتلون ويعذبون ويدمرون مدناً بكاملها، ويأمرون الناس بالسجود لدراكولا الذي يقول في الصورة الأخرى أن من حق الشعب إعادته إلى قلعته في أعالي ترانسفانيا متى شاءوا!

(9)

في عالم الأوهام الذي أبدعه صاحبنا وفريق الإخراج المرافق له، يحلم الرجل بأن ينتخب ليحكم سورية لأربعة عشر عاما أخرى. (وكيف لا ‘ينتخب’ بمائة في المائة من الأصوات والناس يسجدون له طوعاً وكرهاً، نستغفر الله؟). أما في عالم الحقيقة، فإن الشعب السوري أسقط الرجل وشبيحته في أعظم استفتاء شهده التاريخ، استفتاء لم يلق فيه الناخبون بورقة في صندوق اقتراع (وهم فاعلون لو أتيحت لهم الفرصة) ولكن بأرواحهم وأبنائهم وأجسادهم ومصادر رزقهم وكل شيء يملكونه أو يعتزون به. رفعت الأقلام، وجفت الصحف، وقال الشعب كلمته: ارحل. وكل الباقي تضييع وقت ليس إلا، وأفلام تثير السخرية والغثيان معاً.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى