أصحاب الجلالة والسمو يصادرون الغـد العربي
طلال سلمان
وفّر النظام السوري بحملته الدموية ضد معارضيه التي تمددت جغرافياً حتى كادت تشمل سوريا جميعاً، واستطالت زمنياً لسنة إلا قليلاً، موقعة آلاف الضحايا ودماراً هائلاً في المجتمع والعمران، الفرصة أمام الأنظمة الملكية العربية لأن تركب موجة «الربيع العربي» وأن تدّعي أنها قيادة الأمة في حاضرها والمؤهلة لأن تقودها في مستقبلها.
وفي غياب مصر المشغولة بنفسها، وشحوب الدور الجزائري، وانهماك العراق في معالجة الآثار المدمرة لعهد الطغيان والتي فتحت الباب للاحتلال الأميركي، خلا الجو أمام مؤسسة كانت هامشية، ونعني مجلس التعاون الخليجي، للتقدم إلى موقع القيادة متسلحاً بفشل الأنظمة الجمهورية التي صيّرها قادتها إقطاعيات عائلية (حتى لا ننسى ليبيا واليمن).. وتشجيع أميركي معلن وتحريض أوروبي وتحالف مستجد مع الحكم الإسلامي في تركيا.
وهكذا ركبت الممالك والسلطنة والإمارات حصان الربيع العربي وتقدمت لاستعادة مركز القرار في هذه المرحلة الفاصلة في تاريخ الوطن العربي، وكان بديهياً أن تضع اليد ـ وقد غدت أكثرية مذهبة ـ على جامعة الدول العربية.
بسحر ساحر صار الربيع العربي صاحب سمو ملكي بكوفية مرقطة وعقال مذهب، وصارت واشنطن «مركزه» ومجلس الأمن في نيويورك مرجعيته «القومية».
تنصل أصحاب الجلالة والعظمة والسمو من أصدقاء عمرهم وخلان الصفاء ورفاق الصبا وأنكروا «أخوتهم»، وطالوا بإرسالهم إلى المحكمة الجنائية الدولية، بوصفهم «سفاحين» و«معادين للإرادة الشعبية». شهروا بنقص الإيمان بالديموقراطية عندهم، وقالوا عنهم: إنهم لا يعرفون الانتخابات ولا يعترفون بها نهجاً للتعبير عن الإرادة الشعبية. وأضافوا: أنهم سفاحون، يقتلون رعاياهم!
أنكروا الشراكة الطويلة جداً معهم. أنكروا أنهم كانوا أصدقاءهم المقربين، وأنهم كانوا في موقع الندامى، وأنهم كانوا يتعلمون منهم ويتخذونهم مثلاً أعلى في الحكمة والدهاء وفن الزعامة. قالوا عنهم ذات يوم: إنهم سحرة، وإنهم جعلوا بلادهم الفقيرة مركزاً كونياً.
وكان طبيعياً أن يصادروا الربيع العربي ليجعلوه خريفاً للجمهوريات.
انقلب الربيع العربي الذي جاء قبل التوقع، ومن دون مقدمات تبشر به، على الناهضين به من شباب الأمة المقاتل من أجل التغيير. صار الوطنيون والعروبيون والتقدميون من أهل الماضي. وتقدم من كانوا موسومين بأنهم رجعيون وغاصبو سلطة بالسيف ليحاسبوا شركاءهم السابقين، الذين كانوا يخافونهم وينافقونهم ويرسلون إليهم أبناءهم ليتعلموا «فن السياسة».
وانتبه الحاكمون بالشعار الإسلامي إلى أن أولئك الذين أسقطتهم الثورات أو هبت في وجوههم الانتفاضات إنما كانوا من الكفرة والمشركين والخارجين على الدين، وحق عليهم العقاب.
تلاقى السلفيون الذين يصادرون المستقبل بالماضي مع المبشرين بالدولة الدينية باعتبارها الغد الأفضل.
جاءت لحظة الانتقام من بدعة العروبة التي جاءتنا من الغرب: لقد حكم أولئك الذين ثارت عليهم الجماهير، طويلاً، وآن أن تطوى أعلام العروبة، وأن يستأنف الحكم بالدين الحنيف مسيرته التاريخية.
بدلاً من قوقعة الانعزال فليكن التوجه إلى الوحدة الإسلامية.
وبدلاً من وحدة المسلمين لا بد من فرزهم حسب مذاهبهم، فيكون القرار للأكثرية الساحقة… ولا يكون في مثل هذه الدعوة فتنة، بل هو تصحيح لمسار التاريخ، لإعادة وصل ما انقطع.
وهكذا يجد أيمن الظواهري موقعه الشرعي في الربيع العربي.
على أنه لا ربيع لفلسطين. قضيتها معقدة جداً، وستأخذنا إلى الصدام مع من لا يجوز التصادم معه. وما المانع في أن تستفيد إسرائيل من طرح الدولة الدينية؟ إن اليهود أهل كتاب أيضاً، وهم السابقون إلى الإيمان… وأرض الله واسعة تتسع لدول كثيرة للمؤمنين.
لقد آن أن يعود الحق إلى نصابه: نحن الملوك، أبناء الملوك، نحن أولى بالحكم… بل نحن أهله. ويمكن للجامعة العربية أن تبقى في خدمتنا. ألسنا الأكثرية؟ ألستم تطالبون بالديموقراطية؟ إذن فمن حقنا القيادة.
إنه الهجوم الملكي الشامل، وهذه هي اللحظة، فليكن القرار لأصحاب القرار، وأصحاب القدرة على تنفيذه.
بل إنه الهجوم المضاد الشامل على «الميدان» واحتمالات التغيير التي تبدت قريبة من التحقق، في معظم أرجاء الوطن العربي الكبير.
لا بد من تقسيم العرب كأمة. لا بد من تقسيم الشعب إلى أديان وطوائف. تحت راية الدين الخفاقة يتلاقى حكّام التخلف العربي وحكام التقدم التركي… ويمكن للدول التي ليست دولاً أن تقرر مصائر شعوب أسهمت في صنع التاريخ.
أمس، تبدت جامعة الدول العربية غريبة عن ذاتها وعن دورها: لقد أكدت استقالتها من مهمتها التي كان لها، غالباً، قوة الرمز،
ولا يتصل الأمر بإدانة النظام السوري أو التشهير بقسوته غير المبررة في التعامل مع شعبه الصابر ومسؤوليته المباشرة عما لحق بسوريا، الدولة والدور، من أذى جسيم،
الأمر أخطر من ذلك بكثير: لقد تمت مصادرة إرادة التغيير في الوطن العربي، وتم تشويه معنى الانتفاضة بتمكين القوى الأكثر عداءً للتغيير من ادّعاء «أبوتها»، ومن حرفها عن مسارها الأصلي في محاولة لجعلها فتنة بين المسلمين…
وليس أمراً بغير دلالة أن يكون أصحاب الجلالة والعظمة والسمو هم الذين يصادرون الآن موقع قيادة التغيير في الطريق إلى الربيع العربي المرتجى.
يكفي النظر إلى الصورة المجسمة لاجتماع مجلس الجامعة العربية خارج مقرها الرسمي، في القاهرة، أمس، ليتبدى من هو صاحب القرار في الشؤون العربية عامة.
لقد صارت جامعة الدول العربية مجرد «محلل شرعي» للتدخل الدولي، باسم مجلس الأمن فإذا ما رفض اتهمته بخيانة الأمانة والتنكر لمهمته النبيلة في حماية الربيع العربي على الطريقة الليبية.
ومسؤولية النظام السوري جسيمة في هذا السياق.
السفير