أصحاب السيادة أساقفة دمشق.. رفقاً بالوطن وبالمسيحية!
بطرس الحلاق
سمع الله دعاءكم وقبل صيامكم حماية للوطن من أي تدخل أجنبي ودعما للوحدة الوطنية. ذاك التدخل، عرفنا قسوته أثناء الانتداب الفرنسي ثم ذقنا مره في أكثر من عدوان إسرائيلي، ولذا لم ننكر على المسؤولين فضل تجنبه حين اشتعل الجوار. كما رأينا عاقبته المأساوية في وجوه أهلنا في العراق (وآخره مسيحيوها)، وكم نرجو أن ينجو منها شعب ليبيا الذي، بعكس شعبي تونس ومصر، ضل طريقه إلى مقاومة مسلحة ثم لجأ إلى الأجنبي فارتهن له. ويعرف بعض من يقرأني أني نبهت منذ البدايات إلى خطورة تبني المعارضة الليبية للمقاومة المسلحة مستأثرة بالحراك الشعبي وتستنجد بالأجنبي، كما حذرت، في بيان مشترك (سورية، الوطن في خطر)، المعارضة السورية من الوقوع في ذلك الفخ. أما الوحدة الوطنية فهي شعار الجميع بدون استثناء، حكاما ومحكومين، ولكنه يجمع النقيض إلى نقيضه. وأتساءل: لمن توجهون نداءكم هذا؟ (صادر في 16/6/2011) – ألمسيحيي سوريا؟ إذن تشتبهوا بأن بعضهم قد يقع في شرك الأجنبي أو يرمي إلى شق الصفوف؟ شبهة مستهجنة ينكرها تاريخهم الحديث العامر بأسماء المناضلين الكبار منهم. – ألكافة المواطنين؟
وستنسبون الحراك الشعبي لمؤامرة ضد الوطن ضلع بها السواد الأعظم من الشعب؟ – أم للمسؤولين؟ وما حاجتهم إليه وهم أصحاب هذا الخطاب المبهم؟ إذن تتبنوه في إبهامه دون تمحيص إرضاء لسلطة قد يعتبر بعض المسيحيين الهلعين أنها ضمانة لهم (لا سيما بعد ما حدث لأهلنا في العراق)، في حين أن لا ضمانة لمواطن سوى مواطنيه، فهم الباقون حين يتبدل القيمون على الدولة ! أنزهكم عن هذه التهم جملة وتفصيلا. يبقى إذاً أنكم تعللون ظاهرة عامة بتصرف بعض المغرضين، فتبتسرون إشكالية الأزمة الراهنة إلى مجرد انسياق وراء بعض «المندسين». أفليس في ذلك اجتزاء لحقيقة لا تخفى عليكم؟ أما كل اجتزاء للحقيقة إجهاز عليها، مهما صفت النوايا؟
لا بأس من الدعاء والصلاة والصيام التماسا لمنعة الوطن، أسوة بالاستسقاء. ولكن هل ترون مانعا من اعتماد وسائل أخرى -لنقُل مساعِدة- تتلاءم ومفهوم التجسد، وفّرها الخالق للإنسان بحكمته عندما زينه بالعقل ليتدبر أموره بحكمة: اللجوء إلى التحليل العقلاني وميزته أنه يخول كافة المواطنين المساهمة في بناء المستقبل المشترك؟
تعلمنا من التاريخ أن كل تدخل أجنبي، إذ يتذرع معنويا بنصرة المبادئ الأخلاقية وعلى رأسها نصرة الأقليات والديمقراطية، يعتمد في تحركه العملي على الثغرات القائمة -أو التي يستحدثها- في بنية المجتمع، علما منه أنه قلما ينجح في اقتحام مجتمع متراص. ينجم عن ذلك أن حماية الوطن من العدوان تقتضي تحصين المواطن من غواية الانسياق لدعوى الأجنبي، ولا يتم ذلك إلا إذا شعر أنه يتمتع فعلا بحقوق المواطن، حقوق تفرض عليه واجبات. مناعة الوطن تتأتى من كرامة المواطن. فلماذا لا نسعى – بموازاة الصلاة – إلى تأمين كرامة المواطن؟ وهل تعتقدون بإخلاص، سادتي الأساقفة، أن الحراك الشعبي السلمي ينصاع إلى أيد خارجية، أم أنه مطالبة بالإصلاح ليستعيد المواطن والوطن كرامتهما، رغم حفنة من المدسوسين؟ وكذا يقال عن الوحدة الوطنية.
وصية أنطون المقدسي
واستتباعا لما تقدم، هل تعتقدون بإخلاص، سادتي الأساقفة، أن الكرامة متوفرة للمواطن السوري؟ تدهور في مستوى المعيشة يشكو منه السواد الأعظم ولا سيما الطبقة الوسطى، وهي الركن التاريخي للتحديث في مجتمعاتنا، بينما تستحوذ الأقلية على الثروات وتغتني من اقتصاد ريعي أو خدماتي دون انتاج مادي عليه تقوم الثروة الوطنية. احتكار للحياة السياسية والفكرية والتضييق على نشاط المجتمع المدني وعلى حرية الرأي والفكر حتى في الميدان الروحي، كما تعلمون. انسداد أفق المستقبل أمام الأجيال الشابة، فلا يبقى أمامها إلا الهجرة أو الاندماج القسري في حلبة صراع عنيف لا يستساغ. فأين الكرامة؟ وعود حلوة منذ ولايتين رئاسيتين بتصويب المسار، استعذبناها وترقبناها ترقبنا لصباح جديد فخذلتنا حتى هذه الساعة. حالتنا هذه حللتها أقلام باحثين، أكثرهم من المواطنين الشرفاء الكفوئين، وكتاباتهم متوفرة في كل مكان لمن شاء الاستنارة. فمن المسؤول الأول عن هذا الوضع الذي يهمش المواطن ثم يدفعه إلى مواجهة البندقية بصدر عار؟
قد تكون صلاتنا ضربا من العبث إن لم تقترن بالفعل، أقله المطالبة بإصلاح بات اليوم إلزاميا. وهو، كما لا يخفى عليكم أيضا، المطلب الأساسي لشبيبة مسلحة بوعي رائع يحصنها ضد العنف (سلمية! سلمية! يهتفون)، وضد الطائفية والانقسام الداخلي (واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد!) وضد الانسياق للأجنبي.
كم أود أن أذكركم بوجه جميل من مواطنيكم ومؤمنيكم، شهد له الجميع بصفاء النضال في الميدان الفكري والسياسي والروحي: المرحوم أنطون مقدسي. ففي رسالة وجهها للرئيس بشار الأسد إثر إعادة انتخابه بعنوان «من الرعية إلى المواطنة»، يصف فيها الوضع آنذاك ورد:
«سيدي، اسمح لي أن أهنئك بالرئاسة الأولى، وأيضا بكلمات وردت في بيانك، حقا واعدة (احترام الرأي الآخر، ترجيح وجهة نظر الدولة على وجهة نظر الزعامة…) …
إنها بداية لدرب طويل، إذا سلكناه يمكن أن ننتقل تدريجا من البداوة والحكم العشائري إلى حكم القانون وبداية الدخول في القرن الواحد والعشرين.
لقد كفانا يا سيدي من الكلام الفضفاض: مكاسب الشعب، انجازات الشعب، إرادة الشعب.
الشعب غائب يا سيدي منذ زمن طويل، إرادته مشلولة تقوم اليوم على تحقيق هدفين: الأول على الصعيد الخاص أن يعمل ليلا ونهارا كي يضمن قوت أولاده. والثاني على الصعيد العام أن يقول ما طُلب منه قوله، ويتبنى السلوك المطلوب منه (مسيرات، هتافات…) …
الوضع العام، باختصار يا سيدي: انهيار عام، سياسي واقتصادي، وايضا ثقافي وإنساني…»
ثم ينهي بقوله:
«إن الشعب بحاجة، بادئ ذي بدء، إلى أن تعود إليه ثقته بنفسه وبحكومته – والاثنان واحد – وهذا ليس بالأمر السهل، فقد يحتاج إلى أخذ الرأي الآخر بالاعتبار، كما قلت، ومن ثم يتحول تدريجيا من وضع الرعية إلى وضع المواطنة». (ورد النص مقدمة لثلاثة مقالات تحليلية مستفيضة عن تطور المجتمع السوري منذ الاستقلال، نشرت تباعا في جريدة الحياة ابتداء من 21 أيار 2002، ولمن يشاء أن يراجع آخر مقالاته المهمة في كتاب أشرفت على تحريره: «المسألة القومية على مشارف الألف الثالث»، دارالنهار، 1998).
فهل منكم من يجرؤ، وهو يحدق بوجه أنطون مقدسي، على تكذيب أو استنكار ما قاله؟ وإلا، فلٍمَ لا نشهد للحق كما فعل وكما دعانا إليه ذلك الناصري الرائع الذي إليه ننتسب؟
بيان الآباء اليسوعيين
وفرضا عزفتم عن الأخذ بهذا الموقف بحجة أنه صادر عن علماني يتحدث من غير موقع، فلم لا تأخذون «بالرأي الآخر» الصادر عن إخوة لكم في الإيمان والرسالة، هم الآباء اليسوعيون في سوريا؟ يأتي في بيانهم «تأمّلات في ما يجري اليوم في سوريا» بتاريخ 3 حزيران 2011 ما يلي:
«نشهد في مجتمعنا، ومنذ بضعة أشهر، كما في أغلب مجتمعات الوطن العربيّ، مطالبات مجتمعيّة وسياسيّة، من أجل المضيّ ببلدنا نحو حضارةٍ أكبر. تتمحور هذه المطالبات حول القيام بإصلاحاتٍ متعدِّدة وإتاحة حريّة أوسع، بما يسمح لكلِّ فردٍ أن يكون عضواً فاعلاً في تطوير هذا المجتمع، وهذا حقٌّ مشروع ومعترف به للجميع. … وأمام هذه الأحداث الدامية، ذات الوتيرة المتصاعدة في شدّتها وقسوتها أسبوعاً بعد أسبوع، والتي تسفك دماءً بريئة لا علاقة لها بالصراع الدائر، نجدُ أنفسنا مضطرِّين إلى إطلاق صرخةٍ تُخاطب ضمائر مواطنينا كافةً وعلى اختلاف مشاربهم….
إن التحوّلات الجارية في الوطن العربيّ، وفي سياقها تندرج الاضطرابات الحاليّة في المجتمع السوريّ، حُبلى برجاءٍ جديدٍ لا بدّ من أخذه بعين الاعتبار. يتّصف هذا الرجاء بالدرجة الأولى بالتعبير الحرّ عن الرأي، والبحث المشترك عن الحقّ. فالإصلاحات المجتمعيّة والسياسيّة باتت ضرورة ملّحة لا يمكن لأحد أن يتجاهلها…
لا يسعنا أن نذكر كلّ أسباب الأزمة، لكننا نتساءل عن الكيفيّة التي تتيح لنا تخطيَ هذا الوضع المؤلم للوصول إلى محاولة حوارٍ جادٍّ بين كل الأطراف، هذا الحوار ليس بالأمر السهل إذ أنه يفترض أولاً الثقة بالآخر والإصغاء إلى كلامه… إنّنا نرفض الدخول في الحلقة المفرغة التي تولِّد الخوف المستمرّ من الآخر، وتخنق كلّ النيات الصادقة والراغبة في بناء الوطن…
وفي هذا السياق، نأملُ ألاّ تكون المشاعر الوطنيّة الصادقة التي حرّكت الكثيرين خلال الأيام الماضية مبرِّراً للانزلاق، عند البعض منهم، نحو استخدام لغةٍ ومفردات ترفض الآخر وتهمِّشه، فتلغيَ كلَّ إمكانات التواصل معه…. وهنا لا يفوتنا أن نعبِّر عن عميق حزننا لعائلات الضحايا والمعتقلين، من الأطراف كافة، ونعلن التزامنا على قدر استطاعتنا العمل على مساعدتهم وتخفيف آلامهم جميعاً من دون أيّ تمييز كان.
ختاماً، وانطلاقاً من إحساسنا بحراجة الموقف، فإنّنا وباسم الدماء الطاهرة التي أُريقت على تراب وطننا الغالي، نناشد جميع السوريين ومن كل الأطراف، الإسراع بالانخراط الفوري في عملية حوار وطني حقيقي وجاد لإيجاد مخرج لهذه الأزمة».
وينتهي البيان بهذا القول الجامع:
«نرفع دعاءنا إلى العليّ طالبيين أن نلتزم فوق كلّ شيء الدفاع عن مصلحة المواطن السوريّ وكرامته. وبذلك نتخلىّ عن كلّ العصبيات الضيّقة، واضعين نصب أعْـيُننا سلامة الوطن وخلاصه».
ما أجمل الإيمان إذ يتجسد في واقع راهن اليوم والآن، فلا يكتفي بإعلان مبادئ عامة ! وما أجدركم، سادتي الأساقفة، أن تنيروا الطريق بمثل هذا الإيمان المتجسد المترسخ في الإنسانية، المسلح بقوة الحق والمحبة، المزين بالشجاعة التي تجهر بالحق لوجه الله وخدمة للإنسان -وهو صورته- ووفاء للوطن. فالرهان هو على مصير الوطن، ولا وطن بلا مواطن حر، ويبقى المسلك الإيماني على اختلافه وكذلك نقيضه فائضا عن الوجود. فهلا استدركتم بيانكم الحالي، الذي يبث الشبهات بدون طائل ويتغاضى عن الجوهر فيمس من مصداقية موقعكم كمواطنين ومسؤولين روحيين، ببيان آخر تستودعونه رؤيتكم الإنسانية والروحية السامية المعروفة عنكم وعن أسلافكم، خدمة للوطن أجمع بما فيه أصحاب القرار، ووفاء لتاريخ المواطنين السوريين المسيحيين، وإخلاصا لبشرى (أي إنجيل) الناصري الرائعة؟
واسمحوا لي نهاية، انطلاقا من قناعتي بأن صوت الكنيسة لا يكتمل إلا بصوت المؤمنين (المجمع الفاتيكاني الثاني)، ان أقترح عليكم نشر كتيب يجمع جملة من آراء المسيحيين السوريين على اختلاف أطيافهم في الازمة الراهنة وفي سبيل تجاوزها. بذا تبادرون إلى تقديم مثال ساطع على الحوار الذي تسعون إليه وتطالب به شبيبتنا، وهو السبيل الوحيد لتحصين الوطن ضد الأطماع الخارجية والتشرذم واستقواء القوي على الضعيف، وضد الساعين للاستئثار بالسلطة، وإن باسم الديموقراطية، على حساب وحدة الوطن. «فليكن كلامكم: لا لا ونعم نعم» (الإنجيل المقدس).
ولكم فائق الاحترام من مجرد مواطن سوري مسيحي يلتمس دعاءكم ومثالكم الإنجيلي.
[ أستاذ جامعي في باريس