أصداء الحرب الباردة
خيري منصور
ما يبدو الآن على سطح المشهد الدولي، كما لو أنه استئناف للحرب الباردة هو في حقيقته غير ذلك، ليس فقط لأن مناخات وحيثيات الحرب الباردة التي صنفت على أنها الحرب الكونية الثالثة تبدّلت، بل لأن الصراع بين القوى حتى لو استخدم فيه “الفيتو” يبقى قابلاً للتدجين الدبلوماسي، وما يراه البعض موقفاً راديكالياً من موسكو إزاء دمشق ونظامها هو أيضاً بخلاف هذا التصور، فقد سبق أن دار مثل هذا السجال قبيل احتلال العراق، ونذكر أن وزير خارجية النظام العراقي يومئذٍ أعلن في الصحافة وبعنوان مثير، أن موسكو باعت نظامه بأربعة مليارات دولار فقط .
وتكرر السجال ذاته لكن بوتيرة مغايرة في الحراك الليبي، وقبل أن تغير روسيا موقفها لأسباب تتعلق بمصالحها الدولية .
لا نعرف بالضبط متى يطرأ تغير ما على الموقف الروسي من الأزمة السورية التي أصبحت تتفاقم بتسارع دراماتيكي يُحرج حتى حلفاء النظام في دمشق، فالبعض يراهنون على تسعيرة سياسية ذات بعد عسكري اقتصادي لموسكو، بحيث لا تبقى على موقفها .
وثمة من يرون أن لروسيا مصالحها وقواعدها في سوريا وهي بذلك تدافع عن نفسها وليس عن النظام المأزوم في دمشق . وفي جميع الحالات فإن ما ترسخ في الذاكرة من ثقافة الحرب الباردة يمارس نفوذه على معظم من يتصدَّون لهذه الأزمة بتحليلات تبدو مستعارة من معاجم تلك الحرب التي وضعت آخر أوزارها في بغداد .
ما تدعو إليه موسكو وعبر دبلوماسيتها المحافظة هو الحوار بين النظام السوري والمعارضة بشقيها داخلياً وخارجياً، وما تردُّ به المعارضة هو الرفض الجذري لهذا الحوار، لأن أوانه قد فات، ولأن ما تبقى من عمر النظام لا يستحق من وجهة نظرها أي تنازل، والتعامل مع موقف كل من بكين وموسكو مع الأزمة السورية يقترف خطأ مزدوجاً إذا اقتصر على ما تبقى من ثقافة الحرب الباردة، فالعالم تغير، ولم يحل سور الصين العظيم دون عبور بعض مفردات العولمة إلى البلاد .
والخوف الغربي من التنين الأصفر لا يحتاج إلى براءة كَشْف أو اختراع، لأن نذر التحول في الصين استفزت عتاة الاستراتيجيات الغربية للتخطيط لحرب اقتصادية استباقية .
وما تعرضت له بعض الصناعات الصينية في الأعوام الأخيرة الماضية بدءاً من معاجين الأسنان السامة حتى لعب الأطفال المفخخة، لم يكن سوى مجرد قرينة ترجح مثل هذا الاستباق .
وإذا كانت أمريكا هي الأمثولة السائدة عن التخلي عن الحلفاء أو من ظنوا أنفسهم أصدقاء بدءاً من شاه إيران حتى بينوشيه وبقية هذه العائلة، فإن موسكو ليست عاشقة لهذا النظام أو ذاك، فقد سبق لها أن تخلت أيضاً عمن وضعوا بيضهم كله في سلتها المثقوبة، والبراغماتية رغم نسبها الأمريكي إلى “برغمانوس” الأنغلوساكسوني، فإنها تعولمت أيضاً وصدر منها عدة طبعات شرقية منها وربما أبرزها الطبعة “الموسكوفية” المنقحة .
لهذا هناك من يواصلون الرهان على أن “الفيتو” الروسي في مجلس الأمن لن يبقى مشهراً وقد تقتضي مصالح موسكو التي تعاني عدة أزمات محلية، أن ترتعش الأصابع التي تشهر “الفيتو”، وبالتالي تضطر إلى المساومة .
أما الأمر الأكثر جدية من كل هذه السجالات المستعارة من الحرب الباردة فهو تحديد مصالح الآخر في البلدان والمناطق التي تشتعل فيها الأزمات، وإذا كان “الناتو” لا يتدخل هنا أو هناك عشقاً للعيون السود أو استجابة لفروسية القرون الوسطى، فإن الكرملين أيضاً لا يفعل ذلك .
الخليج