صفحات العالم

أصدقاء سوريا وأعداؤها


مصطفى علوش

“أصادق نفس المرء من قبل جسمه

وأعرفها من فعله والتكلم

وأحلم عن خلي وأعلم أنه

متى أجزه حلماً على الجهل يندم”

المتنبي

في مجاهل الزمان الذي لا يمكن تجاهله لكثرة العبر لو اعتبرها ذوو الألباب، كان معيار وجود الفرد هو التزامه، ومحور الإلتزام هو العقيدة، وكانت العقائد الحزبية تتحول إلى إيمان، وكان يتم تصنيف الناس في خانات، فمن يحفظ أسس العقيدة وأنظمتها وفلسفتها إن وجدت، يصنف في خانة المثقف الحزبي أو المثقف الثوري، وهو من يسخر وقته وجهده لتحفيظ العقيدة وفي الوقت نفسه تسخير كل المعطيات والمستجدات لتأكيد وتأييد العقيدة حتى وإن أتت هذه المعلومات في تناقض منطقي معها.

أما المجاهد أو المناضل العقائدي الصلب فهو من يكون مستعداً للموت دفاعاً عن العقيدة، وليس من الضروري أن يكون ضليعاً بغير الشعارات وبعض الأساطير المرتبطة بالفكرة التي قد يموت في سبيلها.

أما المقتنعون بصوابية العقيدة، ولكن في الوقت نفسه يقبلون الآخرين بتسامح ومن دون عدائية، كما أنه لا طاقة لهم على تحمل أذية الآخرين ويدعون إلى حقن الدم فهم طوباويون أو إنهزاميون أو ضعيفو الإيمان، أو في أحسن تقدير عقائديون غير ثوريين!

أما المصيبة الأعظم فتأتي عند تصنيف الأصدقاء والأعداء، وهو تصنيف غير بعيد عن مسألة الفسطاطين التي وضعها بن لادن في رؤيته عن العالم.

ففي خانة الأصدقاء يوضب كل من لا يجاهر باختلافه أو معاداته للعقيدة من أفراد ومؤسسات ودول ومجتمعات، وكل من يقدس أو يحترم أو يجل القائد وينعته بصفات أسطورية وألقاب ملحمية.

أما في خانة الأعداء، حيث يصبح دمهم مباحاً، فيوضع كل من تسول له نفسه أن ينتقد أو يهاجم أو حتى يشكك بالعقيدة أو الحزب، ولكن الجريمة التي لا تغتفر هي دائماً أن يتجرأ أحدهم على انتقاد القائد أو التقليل من واجبات الإحترام والتبجيل والتقديس له.

بالنسبة إلى نظام عائلة الأسد البائد ألغيت خانة الأصدقاء وحلت مكانها خانة الأتباع. وهذه خانة غريبة وهي قد تكون اجتهاداً خاصاً بهذه العائلة العظيمة. هي تضم فقط الفاسدين والمفسدين وأصحاب المصالح والجواسيس الذين يعتمد استمرارهم في وجودهم المعنوي والمادي على رضى القائد.

فمن كان مؤمناً يوماً ما، إما لنقص في المعلومات أو لنقص في العقل، بصوابية توجهات الأسد القومية والوطنية والعلمانية، دون أن يكون مرتبطاً بفساد ما، ابتعد أو أبعد من دائرة الاتباع لأن آل الاسد أنفسهم لا يصدقون أن عاقلاً واحداً يمكنه أن يؤيدهم أو يؤمن بهم دون مصلحة أو غاية. وكان يخضع كل مرشح تابع لامتحان من أجل اختبار قدراته في تخطي المسائل الأخلاقية في المال والسياسة وحتى في المعايير الإنسانية الأساسية التي تتعلق بالشرف والامانة وحرمة الحياة.

لذلك فإننا نرى اليوم أن أتباع نظام الأسد هم على شاكلة ميشال سماحة أو أدنى، فهم إما مجرم أو فاسد أو جاسوس أو شبيح.

أما خانة الأعداء فتضم كل الآخرين، حتى من كانوا حلفاء في يوم ما، أو تقاطعت مصالحهم مع النظام لبعض الوقت، ناهيك مع من يجاهر علناً بانتقاده أو عداوته أو يساهم في ضرب هيبة القائد المؤبد.

في لبنان مصطلحات خاطئة يستعملها الجميع دون استثناء وهي مبنية على مصطلح رهيب آخر هو “سوريا الأسد”، وعلى هذا الأساس فقد أصبح أصدقاء سوريا هم أتباع سوريا الأسد وأعداء سوريا هم من لا يقبلون بأن تكون سوريا ملكاً للأسد.

إن أعداء سوريا في الأمس واليوم هم من يريدون ربط مصير شعب وأرض ووطن بوجود فرد أو عائلة في السلطة، هم أنفسهم من صوروا لآل الأسد بأنهم آلهة أو أشباه آلهة، ما سوغ لهم أن يتسلطوا على كرامات الناس وأرزاق الناس وعلى دمائهم ومستقبلهم. إن ما نشهده اليوم في سوريا من دمار وقتل ما هو إلا نتيجة التآمر المستمر بين نظام الأسد وأتباعه في سوريا ولبنان بالذات، فإن كان لسوريا أعداء فهم بالضبط من يعرفون أنفسهم بأصدقاء سوريا.

أما أصدقاء سوريا الحقيقيون، فهم من اعتبروا دائماً أن التاريخ لا يتوقف على وجود شخص أو عائلة في الحكم، وسوريا الشعب والأرض كانت لمئات السنين قبل حافظ وبشار، وستبقى بأرضها وشعبها بعد بشار. في لبنان مئات الآلاف من أصدقاء سوريا الذين يرون في شعبها أخوة وأصدقاء يستحقون الحرية والكرامة، وفي أرضها خيرات وإمكانات تجعلها تستحق النمو والإزدهار، وفي نخبها قامات إنسانية قادرة على القيادة والإنقاذ دون تسلط أو ولع بالألوهية.

إن أصدقاء سوريا هم من نادوا دائماً بالعلاقات الأخوية والندية بين لبنان وسوريا، وهم من يعتبرون سوريا الجار الوحيد وسعوا إلى التكامل مع شعبها في السياسة والإقتصاد والأمن، وهم أنفسهم من يعتقدون أن استقرار لبنان هو باستقرار سوريا، والإستقرار لا يضمنه إلا التداول الديموقراطي للسلطات، وأن الأمل بديموقراطية صحيحة وتعددية بناءة في لبنان لا يتحقق إلا بتحقق الظروف نفسها في سوريا.

أصدقاء سوريا كانوا ولا يزالون هم من يدعوهم نظام الأسد اليوم وأتباعه بأعداء سوريا.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى