صفحات الثقافة

أطفال الحروب حين يتحوّلون صوراً/ بثينة سليمان

نمت تلك الليلة وابني الذي في التاسعة من عمره إلى جانبي. تركته يغفو وينام من دون أن يغسل جهه ومن دون أن ينظف أسنانه. تركته ينام لما جاءه ملك النوم ليحلم على طريقته بسياراته وألعابه وملعب نادي ايفرتون الذي يعد نفسه باللعب على أرضه يوما، سعيداً بحصوله على الحزام الأخضر في الكاراتيه. هذه الليلة نام مدعياً أننا ننام في مخيم كشفي مستمتعاً بمغامرة تخيلية. ظلت عيناي مفتوحتين على وجهه نائماً، يتشقلب في نومه، يكشف جسمه مبعداً الغطاء عنه، رأسه هنا ورأسه هناك، ما أحلاه في حضني آمناً.

لم تفارقني صورة الفتى الذبيح. لم يفارقني هذا الشق الذي يبدأ من عند ذقنه حازاً عنقه. في مثل عمر ابني ربما أصغر قليلاً، أفكر بأمه و بأبيه أفكر بعالمه الذي خرّ مع دمه وألعابه التي تدحرجت من رأسه، أفكر باليد التي أمسكته، بسكين انصاعت لرغبة القاتل، لو أنها استدارت وانغرزت في قلب هذا القاتل وظل هذا الفتى قرب أمه، لكنها أداة مغلوبة يُقتل بها طفل بريء مغلوب أيضا في عالم صار يبيح كل شيء وما عاد دم طفل يحرك فيه شيئاً..

هذه الصور التي نشاهدها كل يوم، نحن الأوفر حظاً، بعيداً عن الحروب قريباً منها في قلب الحدث خارج المعركة ، لا ننام، ننام شبه نائمين، نجرب النوم على طريقة الفتى الذبيح، نقطع أنفاسنا، ونبحلق في العتمة في النور، في الحياة القادمة، وبوجوه أطفال يُهرق دمهم كل يوم وفي كل مكان من هذا العالم، وتُعطل أنفاسهم.

لم يكن الطفل الذبيح أول طفل يكسر قلبي ويودعني معنى الخسارة ، كانت اختي الرضيعة ابنه الخمسة أشهر، أول خساراتي، أكل المرض معدتها الصغيرة. كانت حربنا الأهلية وهذا يعني أن الأهل يقتلون بعضهم بعضاً كما فهمت الحرب وقتها بأبسط معانيها. أذكر أمي المسكينة جالسة ذلك النهار من ربيع 1978 لا تستطيع أن تصل إلى المستشفى الوحيد القادر على علاجها. كان موتاً بطيئاً. الطفلة تنتفض، عيناها زائغتان ووجهها مثل نور يصفر ثم يحتقن ليميل إلى الزرقة، بردت اليد الصغيرة والقبضة التي كانت تمسك الحياة فُتحت تاركة الروح تفرّ منها، ماتت ذاك العصر أو ذلك الصباح لم أعد أذكر الآن، كنت وقتها في مثل عمر الفتى الذبيح أو في مثل عمر إبني. عرفت أن الحرب تقتل الصغار أيضا، تقتلهم بأمراضهم، بالقذائف أو بالرصاص كانت إسرائيل هي قاتلنا الأول والأخير، اسرائيل التي تهدم بيوتنا وتخطف أصدقاءنا وتصادر أحلامنا، إسرائيل صارت لها وجوه كثيرة، وجوه القتلة الذين استخدموا ما بعد القذيقة والرصاصة، استخدموا الحرق والذبح والتنكيل.

الطفلة الرضيعة صورة في الذاكرة لا تزول وهذا الطفل الذبيح صورة، وذاك الذي شويت ساقاه وتلك التي قطع رأسها، صورة بعدها صورة، هذه الحروب تقتل خلايانا، نحن العالقون بالانتظار، بصباح آمن بأن تكون لنا حياة من دون هذا الموت ذبحاً أو حرقاً. نحن الأحياء الشاهدون الصامتون شركاء في الجريمة.

هذا الصباح، طالعتني صور اطفال بدا وكأنهم ناموا، أقنعت نفسي بأنهم ناموا. تركت الصورة تنساب في مخيلتي مثل نهر ربيعي، لا يعكره الموت الذي ينتشر عند ضفتيه. فكرت بأشجار الفل الصغيرة تعاند الحرارة العالية، تستظل بنبتات الحبق، غابة صغيرة تحتفل أسفل جذع نخلة تحوطها بعبير نافذ وآسر. الطفل الذبيح كان هناك يلهو وينادي على رفاقه الذين ناموا. رأيته كمن يرى ملاكاً ذبحته حرب صارت لنا وصرنا قاتلين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى