صفحات المستقبل

أطفال سورية: لسنا بحاجة إلى حذاء/ أحمد ظاظا

 

 

لا يعرف النوم طريقًا إلى عيني بلال الصغيرتين، منذ اعتقاله في مدينة دوما، على أيدي عناصر تابعين لـ”جيش الإسلام”، فقضاء شهر كامل في عتمة الزنزانة، كان كفيلاً بإخماد براءة لم تتجاوز من العمر عشر سنوات، فلم يخطر على باله يومًا أن النجاة من الموت جوعًا في مدينته المحاصرة، على أيدي قوّات النظام السوري منذ أكثر من أربعة أعوام، قد تكلّفه الطفولة نفسها، ليسجن منذ حوالي شهرين بسبب إقدامه وأخيهِ على سرقة بعض الأحذية قبالة الجامع الكبير وسط المدينة، بهدف بيعها وإعالة والدتهما، بعدما سلبت الحرب والدهما في شهر مايو/ أيّار العام الماضي، نتيجة القصف الحاصل على المدينة.

يقول بلال وقد أصّر على استبدال صوته الصبياني بصوت أكثر خشونة: “كل ما أردته أنا وأخي شراء بعض الطعام حتى نذهب به إلى والدتنا، كنّا نعلم أن أصحاب الأحذية لن يمشوا حفاة الأقدام كثيرًا لأن بيوتهم قريبة من المسجد، وضعوني في السجن مع الكبار، الروائح كانت كريهة والوجوه مرعبة، لم أكن بحاجة إلى الأحذية فأنا لا أملك سوى رجل واحدة”.

لم يعد قصف الطيران الحربي يُرعب بلال، بقدر ما تخفيه فكرة أن يصحو في إحدى الليالي على وقع كوابيس ومشاهد طالما رسخت في ذاكرته الطفولية، جدران الزنزانة العالية، صوت السجَّان الملتحي، بكاؤه الذي لم يتوقّف على أمل إطلاق سراحه، وفراق أخيه إبراهيم ابن الخامسة عشرة، والذي ارتأت المحكمة التابعة لـ”جيش الإسلام”، معاقبته بالعمل في مهنة شاقة وخطرة لم ترحم جسده النحيل، وهي حفر الأنفاق مدّة شهر كامل.

يروي إبراهيم تفاصيل فترة عقوبته التي أمضاها في حفر الأنفاق: “كانت مهمّتي هي عتالة التراب من داخل النفق إلى خارجه، ما سبّب لي آلامًا حادة في ظهري، عملت من الصباح حتى المساء بوجبة طعام واحدة، وكنت أصغرهم سنًا، أكثر ما كان يخيفني هو الموت داخل النفق نتيجة انهياره أو الاختناق فيه، أو حتى اكتشاف النظام بأمر حفرنا، كنت أرجو طيلة الوقت ألا أموت كي لا أترك والدتي وحيدة”.

لمّا انعدمت كل وسائل الحياة لديهم، وبات الموت زائرهم الوحيد، في ظل الحصار المفروض على دوما وكامل الغوطة الشرقية، لم يجد الأخوان بلال وإبراهيم خيارًا أفضل من التحايل على الموت نفسه كبقية الأهالي، من خلال ابتكار طرق حياة جديدة، فعملا قبيل اعتقالهما في جمع البلاستيك الموجود على أطراف الطرقات، وبعد نفاد مادة البلاستيك من دوما، اضطرّا للتسوّل بغية البقاء على قيد الحياة لكن دون علم والدتهما.

تستطرد أم إبراهيم بأسى: “بعد مقتل زوجي حاولت البحث عن أي عملٍ لكن دون جدوى، لم أعلم بقصّة تسوّل ولديَّ إلا بعد حادثة اعتقالهما، صدمني قرار المحكمة التي لم ترأف بحالنا، وصُدمت أكثر عندما اشترطتْ على بلال حفظ أجزاء من القرآن الكريم لتخفيض مدّة عقوبته، وهو لا يعرف القراءة والكتابة ولم يذهب في حياته إلى المدرسة”.

بعد الإفراج عن الأخوين، أقسما على عدم التسوّل أو حتى الاقتراب من الجامع الكبير، وامتنع بلال عن الخروج من المنزل الكائن تحت الأرض، هربًا من أنظار بعض الصبية الذين باتوا يلقبونه بـ”حرامي الأحذية”، فيما عمل إبراهيم في محل لبيع الفلافل يملكه أحد الجيران، على أن يقوم بالتنظيف مقابل وجبة طعام واحدة يوميًا، كما تؤكّد الوالدة:

“لم أعد أصبر على سماع معدة إبراهيم وبلال خاوية، يكفيهما ما حدث لهما، لذا فأنا أعمل حاليًا في تنظيف البيوت، أبو محمد وهو جار لي أشفق على حالي، وقرّر أن يأخذ إبراهيم للعمل لديه، لقد كانت فرحته كبيرة لدى سماعه بكلمة فلافل وخصوصًا أنه نهم للغاية”.

لم تكتمل فرحة إبراهيم بالعمل في محل لبيع الفلافل، فقد حياته بعد أسبوعين نتيجة القصف الجائر الذي طال دوما، وفجعت الوالدة بمقتل بكرها وبات الجرح عميقًا في نفسها إلى حد لا شفاء منه، وبالرغم من ذلك ما زالت تصارع للبقاء على قيد الحياة برفقة آخر العنقود بلال.

حسب تقرير صادر عن منظمة يونيسيف التابعة للأمم المتحدة في مارس/آذار الماضي، فإن أكثر من 80 في المائة من الأطفال في سورية، تأثّروا بسبب النزاع الدائر في البلاد، سواءً من بقوا داخل البلاد أو أصبحوا لاجئين بالدول المجاورة، حيث تشير المنظّمة المعنية بالطفولة، إلى أن حوالي مليوني طفل سوري لاجئ بحاجة إلى دعم وعلاج نفسي.

جيل

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى