أطلال في عصر الحروب المتلفزة/ علي محمد سليمان
ماذا بوسع السوريين أن يفعلوا وهم داخل طوفان الصور بعد أن حوّلت الحربُ المكانَ في يومياتهم ومُخيّلاتهم إلى أطلال؛ وورّطتهم في علاقة معقدة مع الذاكرة. علاقة توغل في تجربة الفقدان إلى تلك الأقاصي التي تصبح فيها الذاكرة تعبيراً ملتبساً عن صورة الإنسان الأكثر هشاشة في الحرب، جسد يغادر المكان المتداعي أو حطامه ليبحث وحيداً عن مأوى آخر من خلال ما أسماه غاستون باشلار “معايشة ذكريات الحماية”.
ليس الإنسان هنا في تنقيبه في أطلال المكان عن زمن ضائع مؤرخاً، بل هو أقرب إلى الشعراء، وقد تكون انفعالاته في هذه التجربة ليست سوى تعبير عن الشعر الذي فقده.
تجربة الفقدان هذه حدثت في كل الحروب وقد دفعت الروائية البريطانية روز ماكولي إلى كتابة مؤلفها “متعة الأطلال” بعد أن دمّر منزلها في لندن خلال الحرب العالمية الثانية. “لقد تركتني الحرب عزلاء من كل شيء إلا عينيّ لأبكي بهما”. هكذا قالت ماكولي بعد تدمير منزلها، لكن كتابها كان أكثر من بكائية إنسان أعزل يواجه فجيعة دمار الأمكنة.
كان الكتاب قراءة في سيرة الإنسان الباحث عن المكان المفقود، أو عن ذاته في أطلال المكان الذي كان مأوى أو حماية في الماضي. والسؤال المقلق الذي يتصدّى له الكتاب عبر تجارب تنتمي إلى حِقَب تاريخية مختلفة يحضر في أكثر أشكاله قسوة في حياة السوريين وهم يتنقلون اليوم بين أمكنة تنهار وأخرى تختفي. أمكنة تنهار لتدعو المنكوبين بفقدانها للتفتيش عن الشيء الوحيد الذي تبقّى لهم، “ذكريات الحماية”.
كم يبدو السوري وحيداً في هذه التراجيديا؟ كم يبدو أعزلَ وهو يواجه تجربة الفقدان والبحث في حطام المكان عن خرافة المعنى وعن معجزة العودة إلى مأواه؟
يبدو السوري أكثر وحدة وعزلة من الإنسان المنكوب بفقدان المكان في كتاب ماكولي؛ لأنه يعيش محنته في عصر الحروب المتلفزة بمشهدية فاجرة وتوثيقية سادية تحاصره وتلغي إمكانيات ما يدعوه نيتشه “النسيان كقوة فاعلة”.
كيف سيتمكّن السوري من ترميم ذاكرته، وهو المحكوم بقدرية التلفزة الرهيبة التي تسلبه جميع مواهب النسيان التي بها وحدها يستطيع البشر تجاوز الفقدان وإبداع أشكال متجددة من الوجود؟ البيت المحترق والمدينة المدمّرة، الأثاث الذي كان ينام عليه من ماتوا، أغراض الحياة وألعاب الأطفال المتروكة، كلها تفاصيل مستباحة في مشهد تبثه الشاشات في كل لحظة وفي كل أنحاء العالم وتخزنه الذاكرة الرقمية العملاقة إلى الأبد في أرشيفها؛ فتحوّل الإنسان المعاصر إلى فونس جديد كما في قصة بورخيس “فونس قوي الذاكرة”.
لقد سقط فونس عن حصانه، فسبّب له ذلك إصابة كانت عبارة عن ذاكرة خارقة وكلية القدرة تستطيع في أي لحظة استعادة كل تفاصيل الماضي من دون أي فرصة لهامش من النسيان. إنها ذاكرة مستحيلة انعدمت معها إمكانية النسيان وتعذّرت بالتالي الحياة ذاتها.
هكذا سيواجه السوري سؤال الوجود على المستوى الإنساني ليستعيد ذاكرة قادرة على إبداع أشكال متجدّدة من الوجود. ذاكرة لن تقبض على لحظة الحاضر إلا بعد أن تنجح في تحقيق معجزة النسيان بما هو فعل تحرّر من كل أشكال العبودية للماضي.
لن ينسى السوري، لكنه سيكون محكوماً في المستقبل بأن يقاوم ويتجاوز كل ما يعتقل ذاكرته في لحظة الفقدان الأبدية التي تحوّلت في أسواق الحرب والإعلام إلى سلعة يعاد تصنيعها وتسويقها. فمن أجل الحياة ستتكشف في زمن ما وفي أفق جيل جديد ملامح ثقافة تؤسّس لتلك الذاكرة القادرة على استعادة المكان المفقود.
(كاتب وباحث سوري/ لندن)