صفحات الثقافة

“أطلس بورخيس”.. السائح الجوال/ حسن داوود

 

 

على الرغم من عماه الذي أمسى تاما عند بلوغه الثامنة والخمسين، تكبّد خورخي لوي بورخيس مشقّات السفر إلى بلدان كثيرة في العالم. بل ربما كانت رحلاته تلك قد بدأت بعد فقده لبصره، في منتصف ستينه مثلا، بحسب ما يبدو حتى في صوره التي كان فيها أقلّ كهولة. ولنضف إلى ذلك ما نعرفه عن  اتساع الإحتفاء به وهو في هذه السن، ما مكّنه من تحمّل نفقات الطواف في بلدان العالم البعيدة والقريبة، من مصر إلى فيلادلفيا إلى باريس وروما واسطنبول ومكسيكو سيتي …إلخ. هو الذي كان يقول أن “سخرية الله” فيه “منحته الليل والكتب”، والذي كان، بحسب ما كتب ألبرتو مانغويل، “يتحرّك بحَيْرة في بيته، وهو ما يفترض أن يكون أكثر الأمكنة إلفة واعتيادا”، سيغيّر هذه المرّة مكانه ذاك، في نظر قارئيه أقصد، أولئك الذين يصعب عليهم تخيّله إلا جالسا على أريكته، مبقيا يده ممسكة بعصاه لأنه لا يحبذ أن يتلقى المساعدة من أحد إن الحّ عليه القيامُ لقضاء شأن ما. ودائما كان هناك شخص ما على المقعد المقابل، يقرأ له بصوت عال في تلك الحجرة التي لا تبذل ضوءها إلا لواحد من الشخصين الجالسين.

لا يذكر الخبر المنشور في صحيفة “لا كابيتال” الإسبانية إن كانت الصور الـ130 التي تعرض في مدريد الآن قد رتبت تبعا لتعاقبها الزمني، لكن لا بدّ أن شيئا ما من ذلك قد نقرأه في تعليق بورخيس نفسه على كل من الصور. ذاك أن المعرض، أو المتحف، الذي يحمل إسم “أطلس بورخيس” مرفق بصدور كتاب يحمل الاسم نفسه. وهو كتاب “صور أضيفت إليها تعليقات أو هو كتابات جرى إرفاق الصور بها”. أحد العاملين على إصدار الكتاب ذكر أن نصوصه كتبت على إيقاع موسيقى التانغو، وربما كان سبب ذلك هو أن بورخيس كتبها، أو أملاها، وهو مصغ إلى الأنغام التي ترتفع من مسجل الصوت في غرفته.

كانت نصوصا مستقلّة، لا بدّ، عن الصور التي أرفقت بها. ما نتصوّره عن كتابة بورخيس للنصوص مستوحيا الصور، ومقلّبا إياها بين يديه، واحدة بعد واحدة، محال طبعا، إذ أن رؤيته لها لم تكن متاحة أصلا بعد تخطّيه سنّ الثامنة والخمسين القاطعة. لقد كتب إذن عن الرحلة، لا عن الصور. كتابة تذكّر ليس للمشاهد المرئية، بل لطريقته في التقاط المهابة الممتنعة عليه. كتابة “لالتقاط الحقيقة الماثلة، أو المتجوهرة، في النطاق الذي يتعدّى رؤية البصر”.

في الصور يظهر بورخيس ساهما، مبتعدا بوجهه عما قد يكون مركزا للرؤية، سواء كان هذا الهرم المكسيكي المتدرّج أو تمثال أبو الهول في مصر، أو حتى الكاميرا التي شخصت لها وجوه من كانوا حوله، ومن بينهم ماريا كوداما التي كانت مرافقته في رحلاته. كأنه كان يصغي إلى شيء، كأنه كان يتلمّس، أو يتنسّم. وكأنه “يحصل” من ذلك على شيء. وإلا كيف سيتاح لمن لم يرَ شيئا من البلاد التي زارها، كيف يمكن له أن يصفها. وهذا ما قد يأخذنا إلى السؤال التالي: مَن غير بورخيس يقوم بهذه الرحلات من دون أن يكون قادرا على مشاهدة معالمها.

في إحدى الصور، وهي ملتقطة في رحلته إلى مصر، يظهر واقفاً مع كوداما وآخرين ويبدو هو ملامسا حدبة جمل، أو إنه أبقى يده مرتفعة سنتمترات عنها. هل كان منشغلا آنذاك بتخيّل نفسه في المشهد؟ هل إنه “يلامس” هذه المرة على طريقته، كأنه ينشغل بتجريد الحيّز الذي حوله قبل أن يعمد إلى تفكيكه.

تلك الصور ليست لمشاهدة خورخي لوي بورخيس متنقّلا بين بلدان رحلته، إنها للتفكير فيه، لاستكناه ما يعني له المكان مجرّدا من الإنبهار البصري. ربما كانت له طريقته في جعل الهواء محمّلا باشياء تتعدّى رائحة الهواء. أليس في ولعه بالصحراء بعض من ذلك؟

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى