أطلس فابريس بالانش: عن العرب في الشرق الأوسط والأرخبيل الحضري
تبادر مجموعة “جغرافيا – سلسلة أطلس” بإدارة جان – رينيه تروشيه، في كل إصدارتها ومعظمها ترجم إلى العربية، إلى مقاربتها الفضاء بمقاييس مختلفة، وإلى تحليلها أيضاً للمناطق الجغرافية، فتشرح ما فيه من تعقيدات وموروثات وديناميات، تكاد تشكل جينات المجتمعات الحضرية. وهي بذلك تعمل على بنائها أو إعادة بنائها، للتمثلات المكونة عنها في الأذهان، بالاعتماد على مفاهيم وطرائق العلوم الاجتماعية. وبالاستناد إلى أدوات معالجة رقمية وبيانية وخرائطية للمعطيات، لأجل تقديم العالم خارج أطر الأفكار المعتادة. وفي هذا الإطار يأتي “أطلس الشرق الأوسط العربي” ثمرة محاولة بحثية تتميز بفرادتها، إن من ناحية الاستطلاع، أو من ناحية الاستنطاق والحفر على المعلومة في الجغرافيات المعاصرة. وقد صدر هذا الكتاب باللغة الفرنسية بعنوان:
“Atlas des parps du Proche-Orient arabe© pups, presses de luniversité Paris-Sorbonne, 2012”.
كرس فابريس بالانش سنوات عديدة ما أسماه: “الشرق الأوسط العربي”. ولذا فقد جاء عمله في هذا الكتاب ثمرة حقيقية لخبرة شخصية. ولا غرو، فهو استاذ محاضر في جامعة لوميار-ليون الثانية، ومدير مجموعة الدراسات والأبحاث حول المتوسط والشرق الأوسط. ولهذا جاء عمله حياً وأخاذاً، اتبع فيه الطرق العلمية المرعية في دراسة الجغرافيات الإقليمية. فبدا بذلك وكأنه يساهم بدور فعال ومهم في ميدان البحث الجغرافي في المنطقة الحافلة بالتوترات: سوريا، لبنان، الأردن، فلسطين، وإسرائيل. وقد أخرج منها مصر مبرراً ذلك بتوقيعها كامب ديفيد عام 1987 وقال: “إن الشرق الأوسط العربي الذي سوف نتناوله بالدرس يتطابق مع كيان جغرافي قديم عُرف بـ”بلاد الشام” هذه المنطقة الواقعة ما بين بلاد الرافدين والأناضول ومصر، كانت دوماً محط أطماع الغزاة. وحديثاً بدت منطقة الشرق الأوسط، تعني قبل أي شيء الصراع العربي الإسرائيلي، لأنه منذ العام 1948، يعيش كل من إسرائيل والفلسطينيين والدول المجاورة حالة حرب سوف تستمر بالتأكيد لعقود عديدة كما يقول. وهذا يفرض نفسه على كل ما يتعلق بتوزيع الأراضي والبنى الوطنية، كما على انخراط المنطقة في الاقتصاد العالمي. علماً أنه في المجال السياسي، يمكن اعتبار لبنان وفلسطين كبلدين ديموقراطيين، بينما تسود في الأردن وسوريا أنظمة تسلطية. مع ذلك يضيف “بالانش” إن الفروقات ليست كبيرة بالقدر الذي يظنّ لأن هذه البلدان تنتمي إلى المنطقة الثقافية ذاتها، ما يعني أن الممارسات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية هي متقاربة” (ص 7).
و”أطلس الشرق الأوسط العربي” يتناول منطقة لم تسبق دراستها بهذه الدرجة من الاتساع والتخصص المستقل. فقد أجمل الباحث في المقدمة خطة عمله في الأطلس، لجهة عرض الملامح المشتركة والتنوع القائم في بلدان الشرق الأوسط العربي المعاصر، مستبعداً إسرائيل ضمن حدود 1967 لاختلاف بنيتها عن بنية الدول العربية: سوريا، لبنان، الأردن وفلسطين. غير أنه يشير إليها في الفصول ذات المنحى التاريخي، أو كفاعل جيوسياسي. كذلك فصل سوريا ولبنان والأردن عن الأراضي الفلسطينية، لأنها لا تستطيع التحكم بمصيرها بفعل الاحتلال الإسرائيلي، غير أنه صرح بمقارنة مؤشراتها الاجتماعية والاقتصادية بتلك الموجودة لدى السلطة المحتلة منذ عام 1967، وليس بمؤشرات البلدان العربية المجاورة. وربما كان ذلك ايحاءً من المؤلف من ارتباط الأراضي الفلسطينية المستقبلي بإسرائيل، أكثر من ارتباطها بالدول العربية في الإقليم.
هناك مؤشرات عديدة على اصالة “أطلس” بالانش الأكاديمية لجهة الموضوعات المطروحة مثل:
1- “خطر الجفاف” (ص 15) الذي درس وقوعاته بين المتوسط والصحراء، وبين المناخات المشرقية وسوريا، وكذلك في الإفراط في استغلال الموارد المائية الناتج عن ثقافة الهدر، واثر ذلك على تدهور البيئة.
2- “السيطرة الأجنبية” (ص 20) المتمثلة في رؤية المؤلف للحداثة الظاهرية للامبراطورية العثمانية ووطأتها على الكيانات العربية (لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين) لأربعة قرون. ناهيك عن نمو الطوائفيات الطاغية في كل بلد منها، وتأثير الامبرياليات الأوروبية عليها. ودخولها في المحاصصات الاستعمارية بوجهها الانتدابي الملطف في التقاسم الفرنسيّ البريطاني لها. فتبرز دولة لبنان الكبير وتقع فلسطين تدويلياً تحت الانتداب الانكليزي المدول والممهد للاحتلال الإسرائيلي العام 1948 وتزول الدول التي أنشأتها فرنسا في سوريا سنة 1922، مثل: دولة العلويين، ودولة الدروز. حيث راحت النخب الجديدة من الدروز والعلويين المتأثرين بالقومية العربية، تناضل للانضمام إلى دولة سوريا التي أصبحت حقيقة واقعة نهاية العام 1936.
3- “البنى الوطنية” (ص 36) وركائزها التي يراها ماثلة في “القومية العربية والنضال ضد الطوائف” وفي “إعادة تنظيم شبكة النقل بعد الاستقلال، وكذلك في الجهاز الإداري الذي كان في خدمة “المركزية” (ص 40). وفي البناء الوطني السوري ووقوعه تحت حكم البعث حتى ثورة الشعب عليه في العام 2011 (ص 42). أما في لبنان فقد وجد أن “الميثاق” كرس سياسة عدم التدخل في الدول، وانتصرت لها طوائفه جميعاً. وعلى الرغم من ذلك تمت فيه النزعة الطوائفية التي أخذت تعمل في تصديع جدران الوطن، وتهز ساحاته. أما الأردن فعرف “الملكية” آتية من شبه الجزيرة العربية. وغدت عمان المدينة المستحدثة عاصمة الاقليم الأردني بدل إربد أو السلط، وهما المدينتان التاريخيتان.
4- “السكان والتنمية” (ص 50) حيث تحدث عن “كثافة سكانية حضرية” عرفتها هذه الدول. وعن النمو السكاني المتسارع خصوصاً في المدن، وعن الشعب المتعلم، والشعب الأمي. وكشف عن أن “المرأة بدأت تحتل حيزاً متنامياً في الحياة الاقتصادية”. وأنه بسبب الحروب المتعاقبة شهدت هذه الدول موجات من اللاجئين منذ القرن التاسع عشر وحتى اليوم، مثل الشركس والأرمن والتركمان والأكراد ومسلمي الجزر اليونانية والفلسطينيين والعراقيين والسوريين. كذلك تحدث عن الرهانات الديمغرافية والبنى الوطنية. إذ “شكل الإكثار من النسل في سوريا الرد الاستراتيجي على الحروب العربية والإسرائيلية وعلى تجزئة سوريا التاريخية / بلاد الشام.
5- “اقتصاد هش” (ص 64) رآه فابريس بالانش في هذه الدول. تمثل في التجارة التي تعاني من الحروب المستمرة. فنادراً ما تنجح هذه المؤسسات في جلب رؤوس الأموال الخليجية. وهذا ما يفسر حجمها المتواضع وعدم قدرتها على التوسع والاندماج. وكذلك الأمر بالنسبة لثقافة المؤسسة ذاتها في الشرق الأوسط، التي ترتكز على العائلة كما يقول، وعلى الحذر الشديد من الدولة. إذ إن مراكز المسؤولية هي حصرية في أعضاء العائلة من اجل تجنب أي تسرب. أما الزراعة فهي مهددة بالزحف العمراني وبالقحط والجفاف. وكذلك الصناعة، فهي ضحية البيروقراطية والصناعة العملاقة في دول شرق آسيا. ويرى أن السياحة عشوائية في هذه الدول وأن التحدي في توليد الطاقة هو همّ مقيم. في حين أن الهيدروكربون يطوق الشرق الأوسط. أما سياسة التهميش فهي تعم جميع المدن والنواحي في الساحل الشرقي في الشرق الأوسط مثل غزة وبيروت وطرابلس وطرطوس واللاذقية. فهي جميعاً لا تتمتع بالجاذبية بالنسبة لحركة العبور الدولي. فالتدفقات بين أوروبا والملكيات النفطية الخليجية تتحاشى هذه الواجهة البحرية بسبب الإمكانيات الضعيفة والاهتراء الذي أصابها ناهيك عن التوترات الأمنية والحروب المتناسلة والمتقابلة.
6- “ارخبيل الشرق الأوسط الحضري”، اشتغل عليه الباحث، حين درس الارتهان المتزايد للملكيات النفطية الخليجية. وحين تحدث أيضاً عن شبكة حضرية تهيمن عليها أربع عواصم هي: بيروت ودمشق وعمان وحلب، وجد أن دمشق تفترس جنائنها وأن عمان هي عاصمة بلا نفط، وأن بيروت هي مدينة متشظية وأن حلب هي مدينة تستعيد نشاطها عبر الانفتاح الاقتصادي، دون أن يتحدث عما حل بها اليوم.
7- “تقسيم فلسطين” (ص 94)، تحدث فيه الباحث عن المناطق والسكان وقال “من الصعب أن نعالج موضوع التوزع الجغرافي للسكان دون أن نتطرق مسبقاً لواقع حدود المناطق ومنهجية الاحتساب الديمغرافي. فدولة إسرائيل والسلطة الفلسطينية لا تعترفان بالحدود ذاتها. وبالتالي علينا أن نستند إلى الحدود التي اعترفت بها منظمة الأمم المتحدة، أي الخط الأخضر الذي كان يفصل بين المتنازعين حتى 4 حزيران / يونيو 1967”. تحدث الباحث أيضاً عن الكثافة السكانية القوية وعن التمدد الحضاري في الضفة وغزة، وعن الديمغرافيا القتالية، وعن الاقتصاد المدعوم والممسوك وعن البطالة والفقر. وكذلك عن قطاعات الخدمات وتقسيم فلسطين بين عامي 1936 1949، وعن تقسيم الأراضي المحتلة والاستيطان اليهودي وتهويد القدس (112).
8- “الجغرافي السياسية للشرق الأوسط” (ص 116) كان لها نصيبها البارز من دراسة “بالانش”. إذ سلط الأضواء على الصراع العربي الإسرائيلي الذي يستمر من حرب باردة إلى أخرى. وعلى مسألة النزاع العربي الإسرائيلي على المياه. وعلى “الجولان” الذي وصفه “بالألزاس واللورين” السورية وعلى الاستراتيجية الأميركية من كل ذلك. ناهيك عن حديثه عن لبنان “كدولة حاجزة” في الصراع بين إسرائيل وسوريا. حيث إن لبنان يُحجز بينهما فيتصارعان على أرضه. كما تحدث عن عودة تركيا (ص 125) كلاعب على ساحة الصراع العربي الإسرائيلي، بسبب انزعاجها في العام 2008 من الهجوم الإسرائيلي على غزة. وقال أيضاً إن بشار الأسد طبّع العلاقات بين سوريا وتركيا. وهو تخلى عن المطالبة السورية بلواء الاسكندرون عام 2004 من خلال عملية التبادل الحر بين البلدين. وأن الحدود السورية التركية تحولت من وضعية القطيعة لتصبح نقطة التقاء، أقله حتى أحداث 2011 في سوريا التي فرضت مؤقتاً إعادة النظر بعملية التكامل الاقتصادي الاقليمي.
ودراسة “فابرس بالانش” تنتهي إلى القول: إن الشرق الأوسط منطقة عازلة أو حاجزة تهيمن عليها الولايات المتحدة والسعودية وإيران وتركيا العائدة إلى الساحة. والتوزيع الطوائفي هو من مكونات الدولة اللبنانية، فيما هو الوجه الخفي للنظام السوري. أما الدولة الفلسطينية فلا يمكن أن تنشأ بسبب الاحتلال الإسرائيلي. أما الأردن فدولة صنعت عام 1920، وتحكمها عائلة من خارجها. وتتقدم السياسة على الاقتصاد في الشرق الأوسط العربي. والخطط التنموية التي وضعتها مختلف الأنظمة هي خطط للهيمنة. وقد أصبح الشرق الأوسط “منطقة طرفية” لدول الخليج النفطية التي تعتبر مركزاً اقتصادياً حقيقياً. وقد اعتمد الباحث على الفضاء المكاني لكي يتمكن من فهم الشرق الأوسط. وقال: “إذا كانت الخطابات تكذب، فإن الفضاء المكاني من ناحيته لا يكذب” (ص 128).
وبرأي الباحث إن الشرق الأوسط العربي، إنما هو عبارة عن “ارخبيل حضري”، حيث نرى الطابع الحضري يأخذ في المد والجزر، تبعاً لظروف قاسية، ناشئة عن الحروب المستمرة، وعن الهجرات والنزوح باتجاه المدن أو باتجاه الأقاليم، مما يؤثر على شبكات التموضع السكني، سواء منها: المكونة من مراكز المناطق، أو تلك التي تحل في الدرجة الثانية والثالثة والمؤلفة من مدن صغيرة ومتوسطة لا تستقطب سوى ثلث السكان، في حين أن ثلثي السكان المتبقين هم في أربعة عواصم: بيروت ودمشق وعمان وحلب.
إن أصالة بحث “فابريس بالانش”: “أطلس الشرق الأوسط العربي”، إنما تتجلى في النتائج التي توصل إليها من دراسة اقليم بلاد الشام، المعقد من الناحية الطبيعية لوقوعه بين غزة وحلب ولواء الاسكندرون، حيث تشطره إسرائيل إلى جزءين. وهو معقد من الناحية البشرية لاختلاف أصول السكان واختلاط عناصرهم. ومن الناحية السياسية والعسكرية لاستمرار الحروب فيه بالوكالة عن القوى الإقليمية والدولية الكبرى، والتي تتشابك وتتصارع مصالحها فيه. ناهيك عن تنوع أسلوب المعيشة حين يلتقي الحضري بالرعوي، وتلتقي الفلاحة بالبداوة والرعي، لممارسة فعاليات اقتصادية تتناسب مع فئات السكان الاجتماعية. ونحن نلاحظ أنه عندما تستمر المؤثرات الطبيعية في أداء دورها، تتقلص شيئاً فشيئاً تأثيرات الاختلافات العرقية والدينية التقليدية. وقد اعارت الدراسة أهمية كبرى للعوامل الاجتماعية: نظام الملكية واستثمار الأرض الذي يتحكم في طرق الانتاج والمردود. وفي السوق ونظام العمل.
فهذه الدراسة الأصيلة في الأبحاث العلمية والأكاديمية، تتضمن مادة علمية غنية وقمينة. وهي ككل بحث جغرافي، ليست عملاً وصفياً أو شرحاً مخصصاً لارضاء فئة متخصصة ومحدودة العدد. بل إنها تقدم نتائج واضحة محسوسة ومحددة تساعد على رسم الطريق للعمل لدى الوطنيين في الإقليم، على تحسين شروط المعيشة عند السكان، وللمساعدة على إندماج واندراج البلدان الأربعة: لبنان، سوريا، الأردن، فلسطين/ بشكل أكثر فعالية في اقتصاد الإقليم، وتالياً في الاقتصاد العربي والعالمي. وعسى أن تأخذ هذه الدراسة طريقها إلى المهتمين الوطنيين بمختلف شؤون الاقليم من جميع الوجوه لأجل المساهمة في التطوير الحضري والتنمية المستدامة.
قصي الحسين
المستقبل