صفحات المستقبل

أطيب شاي.. بـ فراغولين


هنادي زحلوط

ورغم أن غرفتنا كانت صغيرة إلا أن الغرفة المجاورة التي تصلنا منها أصوات رفاقنا المعتقلين الشبان، والتي تضم ما يزيد على خمسة عشر معتقلا، هي بذات الحجم، والعنصر يأتينا أنا وملك بالكمية  ذاتها من الطعام!

سرحت ملك شعرها بأصابعها، لا مشط هنا ولا مرآة، عيناني مرآتها فقط، وعيناها الشيء الوحيد الذي يبث في قلبي القوة، فأنا لا أريد أن أبدو ضعيفة فيهما.

يناديني الرائد وسام، وبدم بارد يقول لي:

– رح تتحولو ع المحكمي..

أسأله عن مصيرنا الذي رتبوه لنا هناك، حيث القضاء العادل والمستقل.. فيرد:

– ما حدا بيعرف.. فينا نقلون يتشددو معكون بس نحنا هالمرة مارح نتدخل..

-يعني ممكن تعطونا حكم سنة .. سنة ونص مثلا؟

-لااااا.. لاااا.. ما عاد فيه هيك أحكام.. هي أحكام محكمة أمن الدولة بوقت قانون الطوارىء.. هلق ما عاد فيه هيك شي. حتى يمكن القاضي يكتفي بالشهرين اللي قضيتوهين عنا ويخلي سبيلكين..

أهز برأسي وقد بدأ اليأس يثقله.

أتذكر آلام صديقي لؤي الذي تركته في المنفردات ودون تردد أساله عنه فيجيبني أن أسرته قد زارته، وقد جلبوا له الدواء، اشرد ساهمة، أرغب حقا في ان يكون قد حصل له شيء جيد، أن يكون رأى أمه، أو أخته، أو ابنته، وحصل على جرعة حنان وإن صغيرة.

وأعود إلى جماعيتنا لأمضي آخر يومين مع ملك.

نستلقي على البطانيات النتنة المفروشة على الأرض، نشتمّ رائحة البصل المنبعثة من طاقة الغرفة، المطلة على مطبخ العناصر مباشرة، فوق الغاز، نصرخ في وقت واحد “عم يقلّوها للشوربة!!!”، ونضحك لأول مرة من رائحة البصل!

حتى البصل يصبح حلما، نسترجع سوية طعم اللبنة مع الملح والزيت، سلطة الذرة التي كانت تحضرها لي مساء ملك، مع الكولا، صوت فتح علبة الكولا، فورانها، مرورها على البلعوم وهي تحرقه!

ياااااااااه، كم تتفتح الرغبات في الحرمان!

في الصباح يدق الباب العنصر الذي يوزع الدواء:

عملنالكين أبريق شاي.. عندكين كاسات لحتى نصبلكين؟

نتطلع حولنا فلا نرى سوى علب العصير من ماركة “فراغولين” الشهيرة في الأفرع الأمنية، نحضر علبتين فارغتين بسرعة فيسكب لنا الشاي فيهما،  العلبتان البلاستيكيتان تضمران وتضمران مع انسياب الشاي فيهما، لكن فرحتينا بهما تكبران وتكبران!

ويكبر قلبانا وهو يخبرنا ان باستطاعتنا شربهما خارجا، خارجا أي في الفسحة الصغيرة المسيجة بالقضبان، حيث يمكننا رؤية السماء، من البعيد، أخيرا!

إنها تمطر، لقد اعتقلت في آب، وهاهو الشتاء يأتي وأنا هنا!

منذ زمن بعيد وأنا هنا، منذ زمن بعيد لم نشرب الشاي مع اللبنة بالزيت يا ملك!

ياله من يوم رائع!

يسأل العنصر:

بكرا إذا شفتونا بالشارع.. رح تقلولنا مرحبا؟ رح تسلمو علينا؟

أرد بسرعة: أكيد!

وترد ملك: ما بعرف.. إذا كنت بمظاهرة وشفتك مارح سلم عليك.. اعذرني!

-ليش بعد كل المعاملة المنيحة اللي عاملناكين ياها.. لسه بدك تطلعي مظاهرات؟؟؟

تبتسم ملك وأصمت أنا ذاهلة!

– بتعرفي قديش صرلي ما شفت أولادي بسبب مظاهراتكين؟ ست شهور.. عندي أرض تيركها بالضيعة بلا سقايي.. كله بسبب مظاهراتكين!

أود لو أقول له: بتعرف انت اني تركت بيي وكمامة الأوكسجين ع أنفه وما شفته من شهرين؟ بتعرف أنه ممكن يموت قهر وهوي ما بيعر فشو عم يصير مع بنته بفرع أمن؟ بتعرف أنه أنا وولادك وهالأرض .. هادا كله كرمال كرسي؟ كرمال واحد مجنون مخبول بكرسي؟

وأصمت، وفي أذني أصوات أقدام معتقلين جدد ينزلون درج القبو المظلم، ويدخلونني أنا وملك بسرعة إلى معتقلنا كي لا نراهم ولا نحس كم نحن كثر هنا، وكم هم خائفون!

ملك تقضي وقتها بالنوم حالمة، أطلب مقابلة الرائد من جديد:

-بدّي اقرا..

-منين بدنا نجبلك كتب هلق؟

-ما تجيبولي.. انتوا صادرتوا من بيتي خمس نسخ من كتاب حكم البابا “وطن بالفلفل الأحمر”.. اعطوني نسخة وخلوا الباقي عندكن..

-هادا الكتاب الشيوعي اللي غلافه أحمر؟ لا.. ما منقدر.. النسخ كلها مصادرة..

أعود لحراسة احلام ملك!

انتظرت يوم الجمعة، كان الوقت صباحا، أغسل ملابسي وأرتدي البيجامة التي أحضروها لملك، أنشر بنطالي وبلوزتي الزهرية على الشوفاج الصدئ، تنتهي الجلبة القادمة من الجماعيات، ثم من المنفردات، هاقد أتى دورنا بالحمام!

يخبط العنصر على الباب: مين بدا تتحمم بالأول؟

أتقدم أمامه فيستدير ويمشي ورائي، رأسي مطأطىء، أجتاز الممر الموصل بين صفي المنفردات إلى الحمام، أنظر بطرف عيني إلى باب المنفردة 12، وأقول وأنا أمضي مسرعة مبتهلة ألا يكون لؤي قد

غفى بعد حمامه السريع الذي لا يتجاوز ثلاثين ثانية: يالله!

الماء الساخن يغسل القلب قبل الجسد، يدفىء الروح تحت الجلد، يزيل الغشاوة عن عيوننا، أخرج من الحمام مبللة وباكية، أنظر إلى ملك وهم يأخذونها، أخال أنهم يأخذونها إلى التعذيب!

يجلب العنصر لنا صابونتين جديدتين، آخذ صابونة وأحفر على زواياها بقطعة حديد صغيرة أسماءنا: عاصم، شادي، غفار، هنادي، وفي القلب حفرت: ملك!

قاطعت ملك بكائي:

– ليش عم تبكي يا زعرة؟

– ما بدي اتركك هون..

-بس انتي طالعة.. لازم تفرحي.. كملتي شهرين ورح تطلعي وتعملي كل شي بدك ياه..

-لا ملك.. قلبي حاسسني أنه رح يحولونا على عدرا..

-يلعن ديبك انتي وتشاؤمك.. اففف…

تضمني، أضمها، ابنتي هي، ابنة قلبي، كيف سأتركها هنا وحدها، فتاة بين عشرات عناصر الأمن، كيف ستستحم هنا وتذهب وتجيء إلى التحقيق ولا فتاة سواها هنا؟ كيف سأتركها وعشرات الصراصير  تخاف أصغرهم؟

وبين عدرا، ورؤية طل الملوحي، الفتاة التي لطالما سمعت عنها، وبين الحرية، كانت الساعات تؤرجحني بعنف بين السعادة والألم.

أنظر إلى ملك الراقدة قبالتي، باسمة، ويدها على الصابونة العطرة بجانب رأسها، ولا تفيد ابتسامتها، والعطر الجميل النادر في منعي من البكاء!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى