صفحات العالم

أعيدوا عنان إلى سوريا!


جيمس زغبي

في أعقاب الاستقالة التي أعلن عنها المبعوث الدولي الخاص إلى سوريا، كوفي عنان، بدأت الصقور تحوم في الأجواء وطبول الحرب تُقرع من جديد في الولايات المتحدة. فالمنابر الإعلامية الرئيسة في أميركا، ومعها كبار المسؤولين السابقين، والمعلقين السياسيين… كلهم يحرضون إدارة أوباما على “الكف عن التفرج” على ما يجري في سوريا والانخراط من خلال التدخل العسكري.

لكن، وقبل أن تُغرق الأصوات الزاعقة المنادية بالحرب صوتَ العقل، لابد أولا من لفت الأنظار إلى بعض الأمور؛ فهناك أسئلة جوهرية يتعين طرحها من قبل هؤلاء الذين يطالبون بالتدخل في سوريا من قبيل: أي نوع من التدخل يريدون؟ ولصالح من سيتدخلون؟ ثم ما هي التداعيات والعواقب التي ستترتب على هذا التدخل؟ فسوريا كما هو معروف ليست ليبيا، ورغم ميل السيناتور جون ماكين للمقارنة بين البلدين والبحث عن أوجه الشبه، يتعين تجنب المقارنات السطحية، فأميركا يمكنها قصف سوريا إن هي أرادت ذلك، وهي قادرة على إقامة منطقة لحظر الطيران فوق الأجواء السورية، إلا أنه -وكما أشار إلى ذلك كوفي عنان في مقال وداعي نشره في صحيفة “فاينانشل تايمز” خلال اليوم الذي أعلن فيه استقالته- لا يوجد حل عسكري للأزمة السورية. فمزيد من العنف لن يولد سوى عنفاً آخر ليهدد “بانفجار كبير في المنطقة يمكن أن يؤثر على العالم بأسره”.

ولا ننسَ أيضاً أن الجيش السوري هو أكثر تقدماً من الجيش الليبي، وحتى في ظل بعض الانشقاقات، ما زال الجيش السوري يتألف في صلبه من ضباط شديدي الولاء، وليس من مرتزقة، وهؤلاء إذا ما جوبهوا بخيار القتال من أجل البقاء فإنهم لن يترددوا في مواصلة المعارك. وكما رأينا، فإن ذلك سيؤدي قطعاً إلى ارتفاع منسوب العنف وإراقة المزيد من الدماء.

وخلافاً لليبيا، يملك النظام السوري حلفاء يرون مصالحهم مرتبطة ارتباطاً وثيقاً به ومهددة في حال سقوطه، فالروس والإيرانيون و”حزب الله” اللبناني كلهم يراهنون على بقاء النظام، أو على الأقل ترتيب وضع جديد تصان فيه مصالحهم. هذا لا يعني بالطبع الاستسلام لخططهم الإقليمية، لكن يتعين على من ينادون بالتدخل إدراج تلك الأطراف ومصالحها، أو احتمال مواجهتها في الحسبان، وهو الأمر الذي لا يفعله من يدافعون عن التدخل في سوريا.

وفيما ظلت أحداث ليبيا حبيسة حدودها إلى حد بعيد، فإن ما يحصل في سوريا بدأت تداعياته بالفعل تمتد إلى الجوار ويتردد صداها في الإقليم، وهي التداعيات التي ستزيد كلما تصاعد العنف وعمت الفوضى، فعلى سبيل المثال يشعر لبنان اليوم بالعواقب الوخيمة على نسيجه الطائفي الهش، وقد بدأ يخاف على استقراره، كما أن أكراد سوريا الذين عانوا طويلا تحت النظام استغلوا ضعفه وانشغاله في الوقت الحالي بما هو فيه للسيطرة على المناطق الشمالية وتأمين نوع من الحكم الذاتي. وبالطبع لن يمر ذلك بسهولة على تركيا وإيران اللتين تتوجسان من الحركات الكردية الانفصالية على أراضيهما. أما الأردن فما زال يعاني من آثار تدفق اللاجئين العراقيين على أراضيه، وهو اليوم يستعد لاستقبال أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين الذين يفرون من العنف ويعبرون الحدود. كل هذه الأوضاع يجب دراستها وأخذها في الاعتبار قبل التفكير في أي تدخل في سوريا.

ويضاف إلى ذلك الوضع المتشظي للمعارضة السورية، فلا أحد ممن يراقب الوضع السوري يؤمن بأن المعارضة قادرة على الحكم، أو إدارة البلد في حال انهيار النظام ومعه مؤسسات الدولة. فعلى عاتق من سيقع عبء بناء ما دُمر؟ ومن سيقوم بنزع سلاح المليشيات المنتشرة، أو استئصال المقاتلين الأجانب الذين دخلوا سوريا؟ ومن سيقوم بإعادة تنظيم الجيش المنقسم ومداواة الجروح الطائفية الغائرة؟ ومن سيفرض النظام ويحارب الجريمة، ويوقف الصراعات المندلعة بسبب تصاعد العنف الطائفي؟

وفي حال سقوط النظام، من سيتولى عملية احتواء التداعيات، كما حصل في العراق، عندما نزح آلاف العراقيين خارج الوطن؟ في هذا السياق أجدني أحد المتمسكين بـ”عقيدة باول”، وإن كان هو نفسه تنكر لها وأدار لها ظهره، تلك العقيدة التي تقول إن الانخراط في تدخل عسكري في مكان يفوق ما لا تعرفه عنه ما تعرفه هي مهمة خرقاء، فبعد عشر سنوات من العبث في أفغانستان والعراق يجب أن نكون مهيأين اليوم لاستخلاص الدروس والاستفادة من العبر؛ ومن الحجج الأخرى التي يسوقها المدافعون عن التدخل في سوريا، تحذيرهم لإدارة أوباما من خسارة صداقة الشعب السوري ومعه المصالح الأميركية بعد سقوط الأسد، خاصة الاستفادة من حليف جديد في المنطقة. لكن ألم نسمع نفس الحجج في العراق وأفغانستان؟ وهل نسينا تلك الألاعيب التي حاكها أحمد جلبي وأمثاله في العراق، وتَحوُّلَ المجاهدين في أفغانستان إلى “طالبان”؟ وبالطبع لا تعني هذه المحاذير أنه يجب ألا نقوم بشيء، فالنظام الدموي في سوريا فقد شرعيته بالكامل، وهو مسؤول عن المأساة التي يعيشها ومعه سوريا، كما أن شعارات العروبة والمقاومة ظهر زيفها جلياً وبانت كمجرد قناع للبقاء في السلطة.

والخلاصة أن النظام يجب أن يرحل بالفعل، لكن عنان كان على حق عندما قال: “فقط من خلال انتقال سياسي جدي ومتفاوض حوله يمكن إنهاء حكم الماضي القمعي، وتجنب الانزلاق نحو الحرب الطائفية”. غير أن عنان أخفق في مهمته بسبب القوى الدولية التي ادعت دعمها لخطته، بينما هي في الواقع كانت تنتهج سياسات تؤدي إلى تأجيج الصراع. وبرحيل عنان نجد أنفسنا اليوم نحدق في فراغ مظلم وأمامنا خيار واضح: إما العمل المشترك كمجتمع دولي لحل الصراع، أو مواصلة السير نحو الجحيم والعيش مع تداعيات ذلك لسنوات قادمة. لذا، وبدلا من نسف الحل السياسي بالدعوة إلى تدخل ما في سوريا، يتعين على كل من الولايات المتحدة وحلفائها، وعلى روسيا وحلفائها، الاتفاق على إعادة عنان وإلتزام أنفسهم بعملية الانتقال السلمي للسلطة. هذه المقاربة قد لا تنتهي بنتيجة ترضي الجميع، لكن -وكما علمتنا تجارب الماضي- يبقى البديل أسوأ بكثير.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى