صفحات الثقافة

أفتح صدري لهواء الحرية


خالد خليفة ()

أخيراً وصلت الثورة إلى باب منزلي، ولم يكن الوقت مناسباً لطرح الأسئلة نفسها، كما لم يعد الوقت مناسباً للتشكي، ولا أخفيكم بأنني أشعر بسعادة غامرة لانتهاء ثقافة التعالي، رغم أن الوقت ليس كافياً لامتحان الكتابة القادمة، الوقت ليس كافياًَ لامتحان قدرتنا على اختبار أسئلة التغيير، لكن الملامح القليلة تكفي القول بإن ما حدث كان مذهلاً، رائعاً، اسطورياً، لم أكن أحلم لأنني سأكون شاهداً ومشاركاً في صنع هذه الثورات العظيمة، وبالتالي عن طيبة خاطر مستعد للتنازل عن أوسمتي القديمة الصدئة، عن طيبة خاطر مستعد للتعلم من جديد كيفية صناعة أسئلة المستقبل.

في ظل الديكتاتوريات أنتجت الثقافة العربية الكثير من الأوهام، شخصيات مشهورة، نظّرت لعقود وباعت بضاعة مغشوشة، مفاهيم وأفكار عن تقديس صاحب النص، نصوص دنيوية لم تخضع لنقاش جدي وجذري ولم تمتحن وأصبحت مسلمات وجزءاً من تاريخ ثقافة هذه الأمة، والأخطر الحديث بشكل دائم عن طوطم جرى تداوله كحقيقة غير قابلة للدحض والنقاش.

في استراحات القصف والموت اليومي الذي يحيط بحياتنا السورية اليومية، تخطر لي أسئلة مترفة عن شكل الثقافة التي سيلدها الموت، شكل الكتابة التي سيكتبها كتاب هم الآن أطفال يرحلون مع عائلاتهم في تراجيديا نزوح جماعي لمدن وقرى بأكملها، يخطر لي شكل موقفهم من كتابتنا، من لوحات أبناء جيلي والأجيال التي سبقتني، يخطر في بالي الكثير من هذه الأسئلة المترفة، لكن شكل الموت وطعمه يعيدني مرة أخرى إلى حقيقة أن التفكير في الكتابة الآن ترف حقيقي، خصوصاً وأنه لم يعد يعني لي أي شيء، وهم شرح ثورتنا والثورات العربية لشركائنا في التاريخ على الضفة الأخرى.

وصلت الثورة إلى باب منزلي، وجرفت كل شيء، أعادت طرح كل الأسئلة الحارقة، العلاقة مع الماضي بكل تجلياته، أسئلة الهوية، أسئلة الاحترام المتبادل لرأي العدو، كما طرحت في الوقت نفسه أسئلة من وزن هل تكفي تقنيات السرد نفسه للكتابة المقبلة، اتساءل ماذا لو كتب أحد ما رواية فكاهية عن الثورة السورية الدامية، ماذا سيحدث في ظل غياب أسماء عاشت في ظل الديكتاتوريات وباعتنا لأزمان طويلة تلك البضائع المغشوشة، حقاُ ماذا سيحدث؟ وماذا عن الثقافة النقدية التي تغنى بها عتاة العلمانيين ومارسوا نقيضها حين وصل النقد الى نصوصهم هل سيعود العرب الى الفلسفة، هل سيكونون شركاء حقيقيين للثقافات الأخرى ام سيبقون موضوعاً مفضلاً للبكاء؟ اذا كان احدهم يعرف ليخبرني، كل ما أعرفه أنني لا اريد الاستمرار في العيش في ذلك المنزل العفن المليء بجثث الجرذان والأوهام. أريد القسوة المقبلة، حتى لو كلفتني أن أصبح جزءاً منسياً من الماضي، يكفيني أن أخرج من منزلي صباحاً واثقاً أن لا قناص يتربص بي على الزاوية أو شرطي يريد الاستفسار عن معاني كلمات قلتها في بار وأنا سكران.

افتح صدري لهواء الحرية وأرفع يدي للمرة الأخيرة بالوداع لكل ما هو غير حقيقي في حياتي.

نعم أنا أيضاً طفل صغير، أريد البحث عن أبجديات جديدة حتى لو كلفتني حياتي.

() روائي سوري

[ألقيت في مهرجان “هاي” الأدبي الذي انعقد في بيروت (4-6 تموز 2012)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى