صفحات العالم

أفكار مسؤولة عن عذابات السوريين

 

وسام سعادة

أما عن العناصر البشرية المتورطة في عذابات السوريين اليوم، فقد أجاب الواقع وأفاض: بشار الاسد وعائلته، لكن ليس فقط، بل كل منظومة الممانعة، ذلك ان هذه المنظومة تحولت مع السنوات من تلاقي مشارب وتيارات فيها المعتدل وفيها المتطرف، وفيها الاخلاقي وفيها غير الاخلاقي، الى منظومة لا اخلاقية بامتياز، بل الى منظومة اجرامية شاملة. ومن عدّة الاجرام، من يقدّمون على انهم من “مثقفي الممانعة”، والادهى، من مفكريها، والهزليون من هؤلاء يتخذون صفاتهم الطليعية من مراكز ابحاث وهمية، هي هي اقبية التعذيب في المخابرات السورية. طبعاً، اقلية فقط من “مثقفي الممانعة” يلزمون اعمالا ارهابية يدوية كميشال سماحة، لكن الغالبية الساحقة منهم تعمل بادراك كامل في احدى الشبكات الامنية، ولا تأتيها افكارها من رأسها، بل بايحاء الجهاز الامني او ضبطه، كما لا تقتصر مهمتها على البث والتحريض، بل تمتد لكتابة التقارير والتجسس والوشاية. طبعاً أقلية فقط من “مثقفي الممانعة” هي خارج التحكم الالي للجهاز الامني بما تعمله او بما تفصح عنه، وهؤلاء تقودهم الى الممانعة بلاهتهم، وبالدرجة الاولى رفضهم التكيف مع فكرة ان الزمن يتبدّل، او رفضهم النظر الى الواقع في تعقيداتهم، وايثارهم بدلاً من ذلك تفسيره على انه صراع بين فسطاطين، الامبريالية من جهة، والشعوب من جهة اخرى، ولو ان الشعوب بالنسبة اليهم تعني مجسمات تكبيرية لاقزام مثل محمود احمدي نجاد، وبشار الاسد.

هذا في العناصر البشرية التي ترفد هذه المنظومة، وتحديدا “انتلجنسيا الممانعة”، التي ليست كلها كميشال سماحة، لكن ثمة ميشال سماحة في كل واحد يرتبط بها. لكن ماذا عن الافكار السياسية المسؤولة هي ايضاً عن عذابات السوريين اليوم، وتحديداً عن تعطّل قدرة العالم الحرّ لجهة التدخل على طريق الحد من هذه العذابات، بالشكل الذي يعجّل في إسقاط الفضيحة العالمية التي اسمها استمرار بشار الاسد في الحكم؟ فلو كان يحكم شبراً واحداً من سوريا، او كل سوريا، يبقى “استمراره” بأي شكل كان، فضيحة عالمية، بمعنى ان لها مترتباتها العالمية، لانها ستشعر شعوباً كثيرة على هذا الكوكب، بأن الطغاة في مقدورهم اقتفاء اثر آل الاسد فيما العالم الحر سيبقى مغلول اليدين، وروسيا والصين تبرران لقمع شعب بأكمله على قاعدة مبدأ حق الشعب في تقرير مصيره معطوفا على مبدأ حق كل شعب في اختيار نظام الحكم الذي يريد من دون تدخل أحد من الخارج.

بشكل سريع، يمكن القول إن مجمل الأفكار التي طرحت نفسها سواء تحت عناوين سياسية أو ثقافية أو أخلاقية، للطعن من حيث المبدأ، بفكرة التدخّل، تدخّل المجتمع الدولي ككل أو دول معينة لوقف عذابات شعب بعينه في لحظة بعينها إذا كان يتعرّض لمستوى مهول من الجرائم، جاء ليساهم في ما وصلنا اليه.

بعد الحسم الاطلسي للحرب الباردة، انقسمت الرؤى في هذا المجال بين نقيضين. أحدهما يرى في حروب التدخل الانساني دينامية تفرض نفسها بنفسها بشكل أقوى وأشمل بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، أولاً لأن هذا السقوط يؤمن للمرة الأولى انتشاراً كبيراً لخارطة الديموقراطية الليبرالية كي تشمل معظم أوروبا، وثانياً لأن هذا السقوط يترافق مع تخلع أو مسخ الكثير من الانظمة في العالم الثالث التي كانت تصنف “تقدمية” وصديقة للسوفيات في ايام الحرب الباردة، بحيث يمكن ان تندفع لارتكاب جرائم مهولة ضد شعوبها ان هي حاولت التحرر من القبضة الديكتاتورية الفاقدة للشرعية.

وهذه المدرسة من جملة ما برز منها الفرنسي اندريه غلوكسمان، الذي كاد يكون لوحده من تضامن مع مأساة شعب الشيشان، وحذّر من ان قمع اهل الشيشان يمهّد لاحياء الاستبداد الشرقي في روسيا، فلم يكترث بذلك لتجريم هذا الشعب من قبل الروس على انه اصولي، ويتبع اسامة بن لادن. في الوقت نفسه، كان غلوكسمان يكشف بموقفه المتقدم هذا عن ثغرة اساسية في نظرية حرب التدخل الانساني لان من شبه المسلم به ان اي تدخل من هذا النوع مستحيل داخل البيت الاتحادي الروسي، ولو حصل يؤدي الى حرب عالمية ثالثة.

اما الثغرة الثانية عند رواد نظرية التدخل الانساني فكانت في سكوتهم عن استمرار احتلال اسرائيل للضفة وقطاع غزة، وحربها لتغيير واقع السلطة الفلسطينية، فلم يطالب هؤلاء مثلا بما كان ضروريا ان يطالب به على الاقل من حيث المبدأ، اي احلال قوات حفظ سلام دولية في الضفة وقطاع غزة.

اما المأساة الراوندية فجاءت تكشف في المقابل ان عالما لا يملك آليات تدخل عسكري مباشر لوقف هذه الابادة الجماعية في عصر الاقمار الصناعية وثورة الاتصالات والمعلومات هو عالم خسيس.

وبهذا المعنى، شكّل التدخل الدولي الانساني في كوسوفو النجاح اليتيم في هذا المضمار، ولم يتحول الى نقطة ارتكاز عالمية، الى ان اضيف له التدخل الدولي الجزئي لمساعدة الثورة الليبية، وهو ما يعيبه اليساريون عليها في حين انها من سمات ثوريتها.

وطبعاً جاءت المشكلة عندما اختلط الحابل بالنابل بعد ايلول، فوقعت نظرية حروب التدخل الانسانية فريسة نظرية الحرب العالمية على الارهاب، وفي حين ان الاولى تنطلق من وجوب البناء على الشيء مقتضاه، فان الثانية تنحو وراء استباق حصول الشيء، والى “الحروب الاستباقية”. حرب التدخل الانساني تطورت فهماً لضرورة التحرك اذا وقعت واقعة ابادة، او قمع دموي متواصل.

في مقابل كل ثغرات ومطبات وتناقضات نظرية التدخل الانساني، يعتبر كل من رفض هذه النظرية من حيث المبدأ على قاعدة انها استشراق دائم وخبيث، او استعمار يعود الى المباشرة، مسؤولاً عن عذابات شعوب كثيرة اليوم، وفي طليعتها الشعب السوري، هذا الشعب الذي قال اشياء كثيرة على امتداد ثورته .. رفض التدخل الاجنبي في الاشهر الاولى .. طالب به لاحقا عندما خرج القمع عن كل مألوف .. ثم عاد وقال ان لا حاجة به الى التدخل الاجنبي لانه عارف طريقه .. ثم قال ان عدم التدخل هو شكل من اشكال التدخل لمصلحة النظام.. المهم في كل هذا اننا امام شعب يطور يوما بيوم موقفه من نظرية لا سبيل الى رفضها بالمطلق، نظرية حرب التدخل الانساني، الا اذا كان من يرفضها يدرك تماماً ان نموذجه النظري يدخل في سياق حماية تركة “الاستبداد الشرقي”.. تحت طائلة تجنب الاستشراق والاستعمار، ولو كان ذلك من باب التواطؤ الضمني او العلني مع نظام يمثّل إحدى حلقات الاستبداد الشرقي، وتراهن عليه كل قوى الاستبداد الشرقي في .. اوراسيا!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى