أفلاك هوميروس المعاصرة/ صبحي حديدي
ماذا لو أنّ شاعراً ضريراً، كتب قبل ثلاثة آلاف سنة ملحمة أدبية ـ تاريخية، تحدّث في إحدى فقراتها عن كسوف للشمس، لن يُكتشف وقوعه إلا في العقد الأوّل من القرن الحادي والعشرين؟ وماذا لو أنّ سلسلة من الظواهر الطبيعية التي سردها ذلك الشاعر، إنما تتطابق على نحو مذهل مع الظواهر ذاتها التي سيكتشفها العلم المعاصر، اعتماداً على أكثر أجهزة الرصد تطوراً؟
هذه حال مارشيللو مانياسكو، رئيس قسم الفيزياء الرياضية في جامعة روكفلر، نيويورك؛ وزميله كونستانتينو بايكوزيس، رئيس المرصد الفلكي في لابلاتا، الأرجنتين؛ اللذين عكفا على قراءة “الأوديسة”، عمل الشاعر اليوناني الخالد هوميروس، لأسباب ليست أدبية تماماً، بل علمية فلكية أوّلاً. وإذا كانت أبحاثهما لم تضف أي جديد حول صحة أو بطلان الوقائع الهائلة التي تسردها “الأوديسة”، وقبلها “الإلياذة”، فإنهما برهنا أنّ الشاعر الضرير لم يكن يهرف بما لا يعرف، بل العكس هو الصحيح: كان يعرف… حقّ المعرفة، أيضاً.
مانياسكو وبايكوزيس انكبّا على تحليل جميع الأقمار الجديدة بين سنوات 1250 و1125 قبل المسيح، وبلغ عددها 1684 قمراً، للبحث فيها عن تواريخ تطابق أحداث “الأوديسة”؛ فعثرا على يوم 16 نيسان (أبريل) 1178، الذي يصادف عند هوميروس تاريخ عودة أوديسيوس (عوليس) إلى إيثاكا، وانتقامه الرهيب من عشّاق زوجته بنيلوبي. وفي النصّ الأدبي، عشية مذبحة العشاق، يروي هوميروس (في ترجمة دريني خشبة الشهيرة) أنّ ثيوكليمنوس يهتف باالخُطّاب: “تعساً لكم أيها الأنجاس لقد سيءَ بكم! ماذا تخبيء لكم المقادير يا ترى؟ ما هذه الظلمات كأنها قِطَع الليل تغطس رؤوسكم وتزلزل أقدامكم؟ وما هذه الدموع تتصبب من عيونكم فتشوي خدودكم؟ أنظروا إن استطعتم! (…) تلك آية أخرى، لقد كسفت الشمس فجأة وتوارت بالحجاب! الضباب الضباب!”…
أمّا الظواهر الطبيعية التي سردها هوميروس، ونجح مانياسكو وبايكوزيس في رصد تواريخ وقوعها على نحو فعلي متطابق، فبينها التالي على سبيل الأمثلة: قبل ستة أيام من المذبحة، كان كوكب الزهرة مرئياً في السماء، وعالياً؛ وقبل 29 يوماً، كانت مجموعة كواكب “بنات أطلس” و”بؤرطيس” (أو “راعي الشاء”) مرئية بدورها عند الغروب؛ وقبل 33 يوماً، كان عطارد عالياً وقريباً من الطرف الغربي لمساره (في نصّ هوميروس يكون هرميس، التسمية الإغريقية لكوكب عطارد، على سفر لتسليم رسالة).
ليست هذه رياضة استكشاف مجانية من جانب العالمَيْن، كما أنها قد لا تضيف قيمة جمالية إلى “الأوديسة”، ولا تنتقص منها في المقابل؛ إذْ ليس التطابق بين الفنّ والواقع قلادة جودة أو رداءة بالضرورة، سيّما إذا جُرّد من جدليات اشتغاله داخل العمل الإبداعي، أو نُظر إليه على نحو ميكانيكي جامد. وفي نهاية المطاف، مَن يجرؤ اليوم على التكهّن بما اعتمل في تلك المخيّلة العبقرية التي أتاحت للإنسانية ولادة تحفتين مثل “الإلياذة” و”الأوديسة”، كُتبتا للرسوخ في الأبدية، وليس لأيّ عصر واحد، أو حتى سلسلة عصور؟ وأيّ علم نفس، نظري أو سريري، يمكن أن يعطي جواباً شافياً على ذلك الحرص التوثيقي الذي هيمن على ذهنية شاعر كان يؤرّخ، ومؤرّخ كان يدوّن بروح الشاعر؟
معروف، إلى هذا، أنّ نصوص هوميروس تتناول حرب طروادة، المدينة التي قد تكون قامت بالفعل على شواطىء آسيا الوسطى، ودُمّرت مرّات عديدة؛ بما في ذلك الخراب الذي حلّ بها أواسط 1200 قبل المسيح، فحوّل المدينة إلى استعارة جبارة حول الحصار، والمقاومة، وصراع الحضارات. وعلى مرّ العصور، لاح أنّ الزعامات الإمبريالية تحتاج دائماً إلى أمثولة طروادية، كما حين وطأ الإسكندر المقدوني أطلال المدينة، فكانت أوّل خاطرة تراوده هي التالية: أين لي بهوميروس جديد يفعل من أجلي ما فعل ذلك الشاعر الأعمى لتخليد آخيل!
ولعلّ وقائع حصار طروادة، ثمّ سقوطها وتدميرها، صنعت الحكاية غير الدينية الأكثر سرداً وتناقلاً وإلهاماً واستلهاماً على مدى التاريخ؛ فتوفّرت في كلّ الأحقاب الرئيسية من عمر البشرية هذه الحزمة أو تلك من الشروط التي تشجّع على استثمارها، بما يخدم سلسلة أغراض إيديولوجية وأخلاقية وسياسية ومعنوية وثقافية. فلِمَ لا يأتي الدور، اليوم، على علوم الفلك!
موقع 24