أفول الدولة- الأمة ونهوض المشاعر القومية في أوروبا/ يورغن هابيرماز
تتنامى مشاعر القلق وانعدام الأمن مع تعاظم هوة اللامساواة الاجتماعية في أوروبا، فيميل الناس إلى التقوقع والسعي إلى الانطواء وراء حدود يحسبون أنها ثابتة وآمنة، فيتعلقون بالكيان «الأم»، مثل الأمة أو اللغة أو التاريخ. وليس تأجج شعلة المطالب الإقليمية في اسكتلندا وكاتالونيا والفلاندر نظير بروز حزب «الجبهة الوطنية» (اليميني المتطرف) في فرنسا… وفي دول الاتحاد الأوروبي، لم تعم المشاعر القومية لدى الشعوب فحسب، بل بلغت كذلك الحكومات. وليست الأحكام المسبقة المعادية لأوروبا ومعاداة الأمم الأخرى وليدة الخوف من التقهقر وخسارة المكانة. فهذه الظاهرة وثيقة الصلة بالشعبوية اليمينية، هي من بنات تفسير للأزمة المصرفية وتضخم الدَّيْن العام، تبنّاه بعض الأحزاب الحكومية مفاده أن أمماً عن بكرة أبيها «مذنبة» ومسؤولة عن مراكمة الديون واندلاع الأزمة جراء ثقافتها الوطنية الاقتصادية المختلفة. والثقافة هذه، على زعم هذا التفسير، تخلف أثراً في مسيرة تطور الأمة أو هبوطها. بالتالي، يراكم بعض الأمم الديون ويخفق في إدارة الاقتصاد إدارة ناجعة، وبعضها الآخر يبلي بلاء حسناً استناداً إلى ثقافته. ولا تُسمع كلمة «تضامن» في دوائر قادة الدول الأوروبية والمفوضية الأوروبية، ولا ينبس أحد بها، كأنها كلمة من عالم آخر. ويبدو أن من يشغله إلى اليوم في هذه المفوضية مستقبل أوروبا هو جان– كلود يونكر رئيس المفوضية الجديد، والاشتراكي– الديموقراطي مارتن شولتز رئيس البرلمان الأوروبي.
واضطرت الأزمات في الأعوام الأخيرة الجمهورية الفيديرالية الألمانية، بسبب رجحان كفة وزنها السكاني والاقتصادي وكونها في قلب منطقة اليورو، إلى قبول دور قيادي، فُرِض عليها، وحري بها أن تخشاه، فالقيادة ترجح كفة مصالح ألمانيا القومية. وشيئاً فشيئاً تنزلق الى معضلة «النهج المهيمن هيمنة متواضعة» الذي التزمته منذ 1871، ولم تستطع تجاوزه إلا بعد حربين عالميتين وفي إطار عملية توحيد أوروبا. ومصلحة ألمانيا تقضي بالانسحاب من اتحاد أوروبي يمر في مرحلة تقتضي قرارات تسنّها قوة مهيمنة.
والمبارزة بين فرنسا (التي تستسيغ سياسة تحفيز اقتصادي) وألمانيا (تدعو إلى تعزيز إجراءات التقشف)، وهما الأمتان المهيمنتان على أوروبا والملزمتان بالتعاون، تنذر بمستقبل قاتم ينتظر الاتحاد. وترفض الحكومة الفيديرالية الألمانية التعويض عن ضمور التضامن ومساندة الدول المتعثرة، والرفض يصب في خدمة مصالحها. وهي لم تعُدْ عن سياسة التقشف الخاصة بها ولم تقوِّمها، على رغم أن قوى ألمانية كثيرة وخبراء اقتصاديين يطالبونها بالرجوع عنها وزيادة الاستثمار. وتطالب الحكومة الفرنسية بتضامن أوروبي، وطلبها في محله، وهو يرمي الى تنسيق السياسات المحلية على المستوى التكنوقراطي. وحري بالقادة والرؤساء إبرام تسويات أو «اتفاقات»: 50 بليوناً للادخار (تقشف) من جهة، و50 بليوناً للاستثمار من جهة أخرى. ودعاة التقشف ودعاة التضامن يجمعون على التمسك بالدولة- الأمة، على رغم أنها خسرت منذ وقت طويل معناها وهدفها. وحريّ بالجمهوريين القوميين في فرنسا الصدوع بفكرة أن حكومة اقتصادية في منطقة اليورو في وسعها التحلي بمشروعية ديموقراطية، لكن مثل هذه الحكومة متعذر من غير التنازل عن مزيد من صلاحيات الدولة– الأمة ونقله إلى منطقة اليورو.
* فيلسوف ألماني، عن «ليكسبريس» الفرنسية، 12/11/2014، إعداد منال نحاس.
الحياة