أقفال الحنين/ عزيز تبسي
مع الفجر، يصعد المنشد والمغني الحلبي “صبري مدلل” إلى أعالي شرفة المئذنة، ليوقظ النيام بكلام عفيف، يحفزهم إلى صلاة آن أوانها.
يصعد، رغم يقينه، أنهم سبقوه إلى يقظة اغتسلت بالماء البارد وخلاصات الزهور. يصعد، ليقرّب المسافة بين أهل الأرض والسماء. لا يتقصد حين يستعين للآذان بخمسة مقامات موسيقية، الإفصاح عن بذخ وإبهار موسيقي، بل لبث الفرح في قلوب الملائكة، وتذكيرهم أن الشعب الأعزل، الذي يستيقظ قبل الفجر، لم يعد يملك إلا الكلام المقفى والانتظار.
أتم واجبه بسكب ماء الأذان في آنية الوقت، وهبط إلى أرض الأزقة التي تقوده من بيت إلى بيت يلاصقه، إذ لم يعد المرء بحاجة لأماكن عالية، تطل على الخراب، عليه الاقتناع، وقد صمم على إتمام مسيرة الحياة في المدن الهشة، التي أمسى يجرحها عبور الغيوم، بخيارات النمل الملتصق بالتراب. واحصاء رمل الزمن، في مسيرة طويلة تتعقب حكايات الشعوب، لضبطهم متلبسين، في حب أشجار الزيتون، والحراسة المذعورة، لأهلهم النيام، من فوق أسوار المدن.
وبالإصغاء للغناء الحنون، لا بدّ من تفحص الارتجال، أي المساحات الحرة التي يهرول بها الصوت المفرد، متعالياً متهاوياً، نائساً إلى شرق الكلام وغربه، ليتفلّت من احتباسه الدهري داخل أوجاع القلب واختناق الحنجرة، عله يفتح لها نوافذ على الهواء بـ”الآهات” الهاربة من حبسها وسجانيها “أشكو إليك أموراً، أنت تعلمها… مالي على حملها صبرٌ ولا جلدُ”. ويستنجد بالأهل وقت تضيق قيود الحياة، بـ”الأمانات”. الاقتراب من الصوت الأعزل، أهون من الاقتراب من الأنفاس التي شبّعه بها الدهر.
الارتجال الذي حجب خوفاً من التدوين، الذي يفصح عن مكامن النفس، ليبقى وسيلة دفاعية تحتم الأخذ بها، للتفلّت من الثبوتيات، التي سعت السلطات المستبدة لامتلاكها، وقادت إلى الاتهام والإدانة، والرمي الطويل في ظلام السجون، أو العزل الاجتماعي والإهانات في الشوارع. الارتجال امتداد للزراعة البعلية، المرتهنة للأمطار وأحوال الطقس المؤاتية، لتقديم اللامتوقع، بخصوبة وعود الدفق واليخضور، أو، بجفاف السنوات العجفاء.
تفجر المخزون الذي راكمته السنوات، وخمرته في أعماقها اللامرئية. ليفسر الارتجال الموسيقى، بغيره من الارتجالات، كالعفوية في الانتفاضات الشعبية الثورية المحكومة بشروطها القهرية، التي لا يمكن التفلّت منها، إلا بما ادخرته الحناجر من هتافات وصراخ مكتوم. لا يحتاج إيصال معنى الغناء والموسيقى، إلى كتيبة من الموسيقيين، تثير الذعر، أكثر مما تدعو للإصغاء والتأمل والفرح. بصوته الأعزل يوصل “صبري مدلل”، عاطفته الحنون، ويصر، بإعادة عباراته على التذكير بأمنياته، التي تعثرت في أرض استنباتها وصعودها، ليتأخر إفصاحها عن براعمها وزهورها.
***
يتجولون بقامات محنية… فيما هم يحومون حول أنفسهم، يتنفسون أنفاس العابرين بقربهم. يهرولون، كما كل الكائنات، التي عطبتها هراوات الحياة، التي تموت مائة ميتة في اليوم، لتلمس ما يفوق الخلود، تخليد الخلود، بصقل الحجر وحفر الأحرف الأولى من أسمائهم. يتساءلون بأصوات مخنوقة وهم يتلفتون حولهم، بذاك التفطن على نقصان لا يعوض “أين الشعب؟”
أهؤلاء الذين يسيرون في الشوارع، أم الذين لا يبارحون بيوتهم؟ الممددون بسيقان مقطوعة من رسخها أو ركبتها، مدثرين بأغطية صوفية، يحدقون في أسقف الغرف.
قل لن تصيبنا، إلا الأهوال، التي كتبها الأمريكان وأعوانهم علينا.
****
في أوائل الليل، تنداح موسيقى الحلبي الآخر “فرانسوا رباط”، تتهادى “ماما بهيجة”، لتحفّز الأعصاب على التنبه، وإدراك المصائر التي تتربص بها، لجرعات الحنين المؤنسة، التي تلازم من هاجروا مدنهم، بقرار أبوي… موسيقى تقود لتذوق الصمت، الذي تتشبث به أمكنة العزلة، التي لا تزال تحتفظ بفضيلة عيش حلم اليقظة بوحدانية.
تتقاطر الموسيقى، لتسترجع بصبر، صخب الأولاد، تصاعد إلى الشرفات، عن الأحقية في ركوب الدراجة الهوائية، وعن صوابية عدد الحمام في سربه الذي يجوب السماء، رغوة معجون الحلاقة على وجه الأب، الروائح الآتية من المطبخ، حينما الأم تعد الإفطار، وتلك اللمسة التي يفتقدها المرء الوسنان حين يريدها، تعبر برفق على جبهته، لتسحب حرارتها وحماها، وتجفف عرقها.
ومصائر دعاء الأمهات الذي مضى بددًا، لم تتحول حفنة التراب إلى ذهب، بل، تحول الذهب الذي منحنه بسخاء، وهن ينتزعن خواتمهن، من أصابع غلّظتها الأملاح المترسبة في الدم، إلى تراب. لا ينطق “فرانسوا رباط” بعبارة وهو يضم آلته الثقيلة المفردة إلى صدره، لكنه يحرض على خروج الكلام والصور والذكريات.
وقعت الشعوب في متاهة لا ضوء فيها. حيث لا تنفع الموسيقى في ترويض ذئاب الاستبداد الهائجة، ولا ينفع الغناء في تليين فلز السواطير التي تتهاوى على الأعناق. لم يعد يستدل على الأميرات الجميلات، من أحذيتهن التي سقطت من أقدامهن، وتركت على قارعة الطريق، ولا على الجنرالات من كلامهم.
أنهكتهم وعود “العاديات ضبحاً”، لم تترفق بعرباتهم المتداعية، بطرقاتهم الوعرة، بقلوبهم التي تنقبض من عواء الذئاب.
ضفة ثالثة