أكاذيب النظام التي تحققت وبات عاجزاً عن السيطرة عليها
بكر صدقي
يلقي طيران النظام، في الآونة الأخيرة، إضافة إلى الصواريخ والقنابل وبراميل الـTNT، بمنشوراتٍ ورقية تخاطب مقاتلي الجيش الحر بـ»لغة العقل»: «لقد تم توريطك بمواجهة الدولة. ألق بسلاحك واستسلم لها. فلا حامٍ لك غيرها». وتقوم شركتا التليفون الخليوي بإرسال رسائل نصية إلى مشتركيهما بالمضمون نفسه، إضافة إلى التليفزيون المكرس لحرب النظام الإعلامية على سوريا.
واصطنع النظام مسرحية غير متقنة في مؤتمر عقدته ما يسميها بـ»المعارضة الشريفة»، التي يحتل بعض رموزها مقاعد وزارية في حكومته، كالشيوعي قدري جميل والقومي السوري علي حيدر. فقد «فوجئ» المؤتمرون بأشخاص يرتدون ثياب جيش النظام، يدخلون عليهم قاعة ائتمارهم بصفة «ضيوف« ما لبث بعضهم أن أمسك بالميكروفون ليعلن أمام كاميرات التلفزيون عن ندمه على مواجهته لـ»الدولة»، وإلقائه السلاح وانضمامه إلى «جيش الوطن»، بعدما اكتشف أنه كان ضحية مؤامرة على الدولة والوطن.
إلى ذلك شنت أجهزة المخابرات، في الأسابيع الأخيرة، حملة تجنيد قسرية للرجال بين 18-40 عاماً، فقامت حواجزها ودورياتها بالإمساك بالناس في الشوارع، ثم ترحيلهم إلى مراكزها لتجنيدهم قسراً. وقامت الأجهزة نفسها بتوزيع السلاح على بعض الشبان من الأقليات الدينية بصفتهم «لجاناً شعبية» لحماية أحيائهم في المدن ممن تصفهم بالعصابات الإرهابية المسلحة، أي الجيش الحر.
يشير مجموع هذه التطورات إلى ورطة يزداد النظام غرقاً فيها كل يوم، تجلت في عجزه عن حسم المعركة عسكرياً لصالحه، وفي تفاقم الخسائر البشرية والمادية في صفوف قواته المسلحة، وفي انهيار معنويات هذه القوات ومعنويات قاعدته الاجتماعية التي تزداد ضيقاً باطراد. فهذا النظام البوليسي الذي تمرس في قمع الأطر التنظيمية للمعارضة السلمية طوال نصف قرن من حكم سوريا بالحديد والنار، وفي قمع المجموعات الإخوانية المسلحة التي تمردت عليه في مطلع الثمانينات، وفي إدارة وتوجيه المجموعات السلفية الجهادية منذ احتلال العراق، وفي الضربات الاستباقية لأي محاولة انقلابية داخل الجيش… فوجئ بالثورة الشعبية السلمية التي انطلقت شرارتها من مدينة درعا، منتصف آذار 2011، ثم عمت جميع أنحاء البلاد في شكل تظاهرات سلمية وكتابات على الجدران وأغنيات ثورية وإعلاماً بديلاً وغيرها من الأنشطة السلمية.
لم تقتصر الغاية من مواجهة التظاهرات السلمية بالرصاص والاعتقال والتعذيب الوحشي وانتهاك حرمات البيوت ونهب وتخريب الممتلكات، على ترويع الناس وإعادتهم إلى بيت الطاعة مجدداً بعدما كسروا حاجز الخوف، بل كذلك لدفعهم إلى التسلح دفاعاً عن النفس. فقد اتهم النظام المتظاهرين، منذ البداية، بأنهم مسلحون حين كان سلاحهم الوحيد الهتاف وقوة الإرادة الجماعية، ظناً منه أن من شأن حملهم السلاح أن يسهِّل قمعهم. فهو متمرس – كما قلنا – في مواجهة المجموعات المسلحة.
كان على النظام أن يخترع رواية كاملة عما يحدث، قائمة على الكذب والتضليل، ليبرر عنفه المنفلت في مواجهة الثورة السلمية. وهو ما فعله منذ الأسبوع الأول لهذه الثورة حين اتهمها باستخدام السلاح والسلفية والطائفية والعمالة لصالح مؤامرات خارجية. وكي يسوِّق روايته هذه على أنها الحقيقة الوحيدة، كان عليه أن يمنع وسائل الإعلام المستقلة من تغطية ما يحدث، وهو ما فعله طوال الوقت، وقتل كل الإعلاميين الذين تمكن منهم، محليين هواة أو أجانب محترفين.
اليوم، والثورة دخلت شهرها التاسع عشر، وتجاوز عدد شهدائها الثلاثين ألفاً، نرى أن النبوءة الأولى المشؤومة، أي السلاح، أصبحت حقيقةً واقعة يصارعها النظام بيأس وقد التف حبل أكاذيبه حول عنقه. النهج الذي اتبعه النظام منذ اللحظة الأولى في مواجهة الثورة، وقام على استبعاد المعالجة السياسية لصالح العنف المحض وتوريط الجيش في الصراع الداخلي، دفع بالثورة إلى حمل السلاح بصورة متدرجة. ما بدأ بعشرات الجنود المنشقين تحول اليوم إلى تشكيلات مسلحة تجاوز مجموع أفرادها المئة ألف، موزعين على امتداد البلاد. وأصبحت الأرض بمعظمها تحت سيطرة الثورة، فواجهها النظام بالقصف المدفعي والجوي المتواصل الذي لا يمكِّنه من تحقيق أي مكاسب، ويعبر عن فقدان سيطرته على الأرض.
غير أن حساسية النظام من الأنشطة السلمية للثورة، ما زالت أقوى بالقياس إلى الثورة بجناحها المسلح. فعلى رغم انحسارها النسبي، ما زالت التظاهرات السلمية تخرج في مختلف أنحاء البلاد، وما زال النظام يواجهها بالقمع الوحشي نفسه حيثما استطاع، أي في الأماكن القليلة التي ما زالت تحت سيطرته. ويواصل النظام قمع أي نشاط سياسي أو ثقافي سلمي حيثما أتيح له ذلك. من ذلك مثلاً اعتقاله لعبد العزيز الخير القيادي في هيئة التنسيق المعارضة واثنين من رفاقه، قبل يومين من انعقاد «مؤتمر الإنقاذ الوطني» الذي دعت إليه الهيئة المذكورة وقوى معارضة أخرى يجمعها «الاعتدال»، في العاصمة دمشق بحماية حلفاء النظام الدوليين: روسيا والصين وإيران.
فعلى الرغم من ادعائه بأنه إنما يواجه «عصابات إرهابية مسلحة»، ما زال يقمع بشدة أي نشاط ثوري سلمي وأي عمل سياسي معارض، حتى لو كان «معتدلاً» و»إصلاحياً» في معارضته، وحتى لو كان بمباركة حلفائه الدوليين.
روسيا والصين وحتى إيران، يدعمون نظام الأسد في حربه على سوريا، وفي ظنهم أنه يريد بهذه الحرب أن يحقق نصراً سياسياً. في حين أن النظام فقد الأمل تماماً من تحقيق حتى النصر العسكري، وما يفعله بسوريا لا يعدو كونه انتقاماً خسيساً من شعب وبلد خسرهما إلى الأبد.
المستقبل