أكاذيب تاريخ بين تدمر و «داعش»/ ندى الأزهري
«على المشاهدين أن يعرفوا أن تدمير تدمر لم يبدأ مع وصول «داعش»! من الواجب إظهار الحقائق والتحقيق في مسؤولية «داعش» والنظام السوري في تدمير المواقع التاريخية في سورية». خلاصة ما يقوله علماء آثار وباحثون ومؤرخون سوريون وفرنسيون بمناسبة إعادة بثّ الفيلم الوثائقي الألماني «تدمر، التراث المهدد» الذي أثار عرضه سجالاً على صفحات الصحف الفرنسية («تليراما»، «لوبس» («نوفل أوبسرفاتور» سابقاً)…).
الفيلم عرض على شاشة «آرتي» الثقافية في أيلول (سبتمبر) الماضي، ومنذ ذلك الحين والسجال قائم بسبب ظهور مقاطع فيديو فيه تبرز تدميراً في المواقع الأثرية في تدمر كما لو أنه حصل في 2015، فيما تعود تلك الصور إلى 2013، أي قبل دخول «داعش» للمدينة! واعتبر اختصاصيون أن هذا الخلط ليس مجرد «خيانة لمصدر المادة الفيلمية بل هو أيضاً تأويل آخر للتاريخ». وكان ناشط سوري يدعى إبراهيم مطلق قد دفع حياته سبباً لهذه الصور حيث «اعتقل ومات تحت التعذيب» بحسب شهادة محمد طه وهو عالم آثار سوري يرأس جمعية لحماية الآثار السورية في باريس، كان أرسل رسالة احتجاج للمحطة الفرنسية الألمانية ذكر فيها أن «إبراهيم أراد أن يشهد على التخريب الذي لحق بالآثار من قبل النظام، لكن صوره استخدمت (من قبل مخرج الفيلم الألماني مارتان بابروفسكي) لإظهار أنه من فعل «داعش»!».
واعترضت جمعية «سورية- أوروبا» على المحطة الفرنسية وطالب معترضون بعدم إعادة بث الفيلم الذي تم السبت المنصرم، أو بإلغاء تلك المقاطع. واكتفت المحطة بناء على الجدل الذي أثاره عرض الفيلم للمرة الأولى بالإشارة إلى هذا الخطأ في تاريخ الأرشيف حين عرضه الثاني قبل أيام.
يركز الفيلم الألماني على التدمير الهائل الذي ألحقه «داعش» بآثار تدمر من خلال الصور التي التقطتها الأقمار الاصطناعية للمواقع الأثرية في سورية، ويحاور خبراء ألمان حول التقنيات المتطورة المستخدمة لتحليل تلك الصور ولتقدير مدى التدمير الذي لحق بالآثار كما الوسائل المستخدمة لتسجيل الوثائق التاريخية رقمياً للحفاظ عليها. كما يستعيد تاريخ المدينة ويحلل دوافع إرهابيي «داعش» لفعل التدمير، وأنها سعت عبره «لمحو كل ما ومن يمثل طريقة مغايرة لفكرها سواء كان أثراً أم شخصاً». وأنه ليس حرباً إعلامية وحسب تؤكد فيها المنظمة الإرهابية على واجهتها الدينية بل أيضاً لتغطي تجارة نهب الآثار التي اعتمدتها.
الفيلم عرض على «آرتي» في وقت الذروة أي التاسعة مساء أما الفيلم الثاني «سورية، الحصون الأخيرة للتراث» للفرنسي جان لوك راينو فعرضته «فرانس 5» التاسعة والنصف من صباح الأحد! الفيلمان يستخدمان صوراً متشابهة لكنهما لا يقولان الشيء ذاته! ففيما يستضيف الأول مسؤولين سوريين في الآثار مع النظام ويركز فقط على دور «داعش» في التخريب والهدم فإن الثاني يستضيف سوريين معارضين ويلقي بالمسؤولية على النظام و «داعش» معاً.
الفيلم مثير للمشاعر عبر ربطه بين تدمير الآثار ومحو الهوية السورية، وكذلك في إبدائه محاولات سوريين يعملون في الظل لحماية آثار بلدهم، فيلتقي بأساتذة وباحثين سوريين مثل محمد طه وعلي شيخ موس ومهتمين بالتراث السوري مثل عمر إسلام الذي كان في حلب وقت القصف عليها وشهد التدمير الذي لحق بها. كما يبرز الوثائقي عجز اليونيسكو الكامل وعدم تدخلها في تدمر قبل دخول داعش وهذا على رغم كل الصور والاستنجاد بها منذ 2012 لإنقاذ آثار تدمر مما تتعرض له من انتهاكات، كما يبين مسؤولية النظام السوري في ما لحق بها منذ بداية التظاهرات فيها وحتى اليوم مع وجود القواعد العسكرية الروسية فوق مواقع لم يتم التنقيب عنها بعد.
ويتساءل طه في إشارة إلى عدم اهتمام النظام السوري والمجتمع الدولي بتدمر: «كيف لم يروا قوافل «داعش» المتقدمة من الرقة إلى تدمر وهم يستطيعون قراءة المكتوب على الأحجار؟ خمس ساعات ولم يفعلوا شيئاً «للرمز العالمي لسورية»! لا أحد اهتم بتدمر هذا «الإرث الاستثنائي» قبل وصول «داعش»!».
وحلل المؤرخ والباحث الفرنسي جان- بيار فيليو أن تدمر غير مهمة عسكرياً ولهذا سُلّمت لـ «داعش» في 2015 وأنها كانت رهينة النظام السوري و «داعش» وتركت لمصيرها «تدمر ضحية الدعاية الداعشية (مشهد حكم الإعدام على مسرح المدينة) والدعاية الروسية (الحفلة الموسيقية)».
الفيلم لا يركز فقط على تدمر بل على حلب وكل القصف عليها من قبل النظام «من دون أدنى اعتبار أو احترام للآثار» ويبين صوراً عن تدمير البلدوزر لمنطقة من العصر الروماني في حلب كي تمر دبابات الجيش. كما يتناول الآثار العراقية ويلقي الضوء على هؤلاء الذين عملوا في الظل للحفاظ على الهوية السورية والعراقية عبر المجهود الضخم الذي بذلوه لحماية الآثار ومنهم فك منبر جامع حلب قطعة قطعة لحمايته من القصف. وينتهي إلى طرح السؤال الذي يبقى بلا إجابة: «لماذا نتدخل بعد وليس قبل؟!»… حين لا يبقى من الآثار سوى أثرها!
الحياة