أكراد سوريا.. فرصة ومخاطر
خورشيد دلي
في الوعي القومي لأكراد سوريا برزت سنة 1958 محطة فاصلة عندما أسس الأكراد أول حزب قومي لهم باسم الحزب الديمقراطي الكردستاني تعبيرا عن وجودهم القومي وردا على الأيديولوجية القومية العروبية في عهد الوحدة مع مصر، وما اتخذته هذه الأيديولوجية من تشدد قومي قام على إنكار الهويات القومية للشعوب والأقليات الأخرى.
فقد طبقت بحق الأكراد سلسلة من الإجراءات العنصرية والاستثنائية من تعريب لأسماء القرى والبلدات الكردية واستهداف ثقافي وسياسي ولغوي وأمني ممنهج للمكون الكردي، وصلت إلى حد تجريد عشرات الآلاف منهم من الجنسية السورية وبالتالي من حقوق المواطنة بغية طمس معالم الهوية القومية الكردية وضرب هذا المكون وتشتيته وتجريده من عناصر قوته وديمومته.
قبل تفجر الأحداث في سوريا كانت مطالب الحركة الكردية تتلخص في إطارين:
الأول: مطالب عامة تتعلق بالحرية والديمقراطية والتعددية على مستوى البلاد.
الثاني: المطالبة بحقوق ثقافية وسياسية تتعلق بخصوصية الهوية القومية للأكراد.
الآن وبعد مرور أكثر من سنة ونصف سنة على بدء الاحتجاجات في سوريا، تطور قوس المطالب الكردية بشكل كبير واتخذ تدريجيا شكل المطالبة بحق تقرير المصير، فظهرت مطالبات من نوع الدعوة إلى الفدرالية والحكم الذاتي والاعتراف الدستوري بالأكراد كقومية ثانية في البلاد على اعتبار أن العرب هم القومية الأولى، وإلغاء كلمة العربية من اسم الجمهورية العربية السورية لتصبح الجمهورية السورية.
وقد أثارت هذه المطالب وغيرها جدلا كبيرا في الشارعين الكردي والعربي معا، بين من يرى أن هذا الطرح القومي ليس له علاقة بالدعوة إلى إسقاط النظام والانتقال إلى مرحلة سياسية جديدة في البلاد، وبين رؤية الشارع الكردي الذي يغلي بالشعارات القومية ويرى أن سوريا المستقبل لا يمكن أن تكون دون تحقيق المطالب الكردية المذكورة.
التطور الأبرز في سياق كل ما جرى، هو سيطرة الأكراد خلال الأيام الماضية على معظم المناطق الكردية وإقامة بنية إدارية وأمنية ومؤسساتية وتشريعية في معظم المدن الكردية، كعفرين وكوباني (عين عرب) وديريك (المالكية ) وترب سبي (القحطانية ) وعامودة.. وغيرها من المدن والبلدات الكردية التي باتت الأعلام الكردية ترفرف فوقها وسط سيطرة واضحة لعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المعروف بـ (ب ي د) وهو فصيل يعد عمليا الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني.
سيطرة القوى الكردية على هذه المناطق، أثارت مخاوف تركية دفينة، دفعت برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان إلى اتهام النظام السوري بتسليم هذه المناطق إلى حزب العمال الكردستاني والتهديد باجتياحها في حال شكل ذلك تهديدا لأمن بلاده.
ويشكل هذا الأمر إلى جانب وجود مكون علوي على طرفي الحدود وتحديدا في منطقة لواء إسكندرون – هاتاي يعارض سياسة أردوغان تجاه النظام السوري، كابوسا للحكومة التركية حيث الخشية من تداعيات كبيرة تنسحب على تركيا اجتماعيا وأمنيا وسياسيا واقتصاديا.. خاصة إذا نجح النظام السوري في تفجير هذه العوامل في وجه تركيا التي تحتضن المعارضة السورية السياسية والعسكرية.
وحقيقة، فإن تركيا تبدو في محنة كبيرة إزاء التطورات الجارية في المناطق الكردية السورية، فهي باتت تجد نفسها أمام إقليم كردستان سوريا في الشمال بعد أن كانت أمام إقليم كردستان العراق قبل أن تتحسن العلاقة بين الجانبين في ظل الاستقطاب السني الشيعي الحاصل في العراق والتوتر في علاقة تركيا بحكومة نوري المالكي حليف إيران والنظام السوري، وفي العمق تخشى تركيا من أن تتحول مناطق عفرين أو القامشلي إلى جبال قنديل جديدة بما يعني تصاعد القدرة الحركية لحزب العمال الكردستاني الذي يشكل عقبة في وجه سياسة أردوغان الإقليمية وتطلعه إلى استقطاب العامل الكردي في المعادلات الإقليمية.
وإذا كان من الصعب تخيل التدخل العسكري التركي في المناطق الكردية السورية بحجة ملاحقة العناصر الكردية المسلحة (لأن من شأن ذلك خلط أوراق الأزمة السورية وربما يلجأ النظام السوري إلى نفس السلوك أي ضرب الجيش السوري الحر داخل تركيا وبالتالي انجرار البلدين إلى حرب ثنائية) فإنه بدا من الواضح أن أردوغان يركز على إقليم كردستان العراق وتحديدا رئيس الإقليم مسعود البارزاني لممارسة المزيد من الضغط على أكراد سوريا لمنعهم من التحول إلى ورقة في يد النظام السوري ضد حكومة أردوغان، حيث للبارزاني علاقة تاريخية مع فصائل الحركة الكردية السورية التقليدية، بل إن كثيرا من هذه الفصائل ترى في البارزاني الأب قائدا تاريخيا وملهما روحيا لها.
انطلاقا من هذا الاستقطاب الحاصل على الورقة الكردية، ثمة خشية كبيرة من حصول فتنة كبيرة بين صفوف أكراد سوريا، على شكل حرب داخلية بين الفصائل، وتحديدا بين حزب الاتحاد الديمقراطي الذي يسيطر على الأرض بالقوة وبين فصائل المجلس الوطني الكردي الذي يضم 15 حزبا سياسيا وتنسيقية، حيث تشكو هذه الفصائل من محاولة تفرد حزب الاتحاد الديمقراطي بالساحة الكردية السورية وفرضه سياسة أمر الواقع على الجميع.
بغض النظرعن الجدل الداخلي الكردي فإن التطورات الأخيرة في المناطق الكردية السورية تبدو مماثلة لما حصل في كردستان العراق قبل نحو عقدين، عندما انسحب الجيش العراقي من شمال العراق 1991 فتحررت كردستان العراق تلقائيا من سلطة الحكم المركزي في بغداد، وبدأت الأحزاب الكردية بترتيب بيتها الداخلي عبر إجراء انتخابات محلية وتشكيل برلمان كردي نتج عنه حكومة محلية بدأت تدير الإقليم أمنيا وسياسيا واقتصاديا… إلخ، وبقيت هكذا إلى أن نجحت بعد انهيار نظام صدام حسين في انتزاع الحقوق الكردية عبر الدستور وتحولت إلى كيان سياسي بات يحظى بالمزيد من عناصر القوة والاعتراف والمكانة.
اليوم ومع فارق التجربة والظروف فإن الكثير من أكراد سوريا باتوا يستحضرون تجربة إقليم كردستان العراق في اتخاذ نفس السلوك لبناء إقليم كردي وباتوا يطلقون على المناطق الكردية بغرب كردستان على اعتبار أن كرستان العراق هو جنوب كردستان وإيران هو الشرق وتركيا هو الشمال، وحقيقة شكلت التطورات الأخيرة مناسبة لتفجير الوعي الكردي بالأيديولوجية القومية والخروج إلى حيز الممارسة العملية ضمن الإطار الجغرافي للمكون الكردي، وهو الأمر الذي يثير إشكالية كبيرة في علاقة الوعي القومي الكردي السوري بالوطنية السورية التي تبدو وكأنها أمام امتحان تاريخي ومعرضة للتدمير والتقسيم، إذا لم تنجح الثورة السورية في إيجاد صيغة واقعية تقر بحقوق الشعب الكردي والأقليات القومية والدينية والمذهبية التي تخشى من التداعيات ووصول جماعات متشددة إلى السلطة حيث المخاوف من سيطرة الإخوان المسلمين على المشهد السياسي في المرحلة المقبلة.
إلى أن ينجلي غبار المعارك عن المشهد السوري، فإن التطورات الأخيرة والتي توحي بقرب نيل أكراد سوريا مطالب قومية لم يكونوا يحلمون بها قبل سنوات قليلة قد لا تكون كذلك، فالأمور قد لا تسير كما تشتهي سفن الأكراد، فثمة مخاطر جمة، أولها احتمال تفجر حرب كردية كردية على خلفية الانقسام والاستقطاب الحاصلين رغم تأكيد الجميع حرصه على منع وقوع مثل هذه الحرب.
وثانيها: أن تكون سيطرة الأكراد على هذه المناطق في إطار صفقة مع النظام بغية تحييد المكون الكردي. وثالثها: احتمال قيام تركيا بالتدخل العسكري بحجة مكافحة (إرهاب) حزب العمال الكردستاني يبقى قائما. ورابعها: احتمال المواجهة بين حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي والمعارضة السورية بما في ذلك الجيش السوري الحر يبقى قائما، نظرا لتناقض الرؤى بين الأيديولوجية القومية الكردية التي تنحو نحو كردستان الكبرى خاصة أن ولادة إقليم كردي سوري تعني أن العلاقات مع باقي أجزاء كردستان ستصبح مفتوحة وبين الوطنية السورية التي ترفض التقسيم أو التفكك ولو كان الشعار إقامة حكم محلي أو إقليم كردي فدرالي.
الثابت أن نار الأزمة السورية أكبر من الحسابات المحلية المتعلقة بالمكونات السورية القومية والسياسية والمناطقية، ورغم أن اللحظة الراهنة تشي بفرصة تاريخية لنيل الحقوق والمطالب إلا أن نار الأزمة تضع الجميع أمام كافة الاحتمالات والمخاطر، وهو ما يتطلب المزيد من الحكمة والتروي للعبور إلى المرحلة المقبلة بأقل الخسائر.
الجزيرة نت