مراجعات كتب

ألان غريش يقدم “الإسلام والجمهورية” إلى “العالم”

 

 

بدر الراشد

في كتابه المترجم حديثاً إلى العربية “الإسلام والجمهورية والعالم” يحاول الإعلامي والكاتب الفرنسي، ألان غريش، لملمة شتات مواضيع عدة منفصلة، لطرح صياغة مختلفة لموضوع الإسلام، واندماج المسلمين في فرنسا، القضية التي يزداد حضورها إلحاحاً، عاماً بعد عام في الجمهورية الفرنسية، منذ ثمانينات القرن الماضي.

فمن صراع الحضارات و”الذاكرة الكولونيالية” الفرنسية، إلى العَلمانية وتفسيرات دساتير “الجمهوريات” الفرنسية لعلاقة الدين بالفضاء العام. ومن مناقشة مسائل الحجاب، ووضعية المرأة في الفقه الإسلامي، إلى رؤية الفرنسيين للإسلام، على المستوى النخبوي والشعبي، وأثر الإرهاب على علاقة الإسلام، بالعالم. هذه بعض القضايا الرئيسية التي طرحها غريش للنقاش في كتابه المكون من عشرة فصول، الذي نُشر بالفرنسية سنة 2005 وترجم إلى العربية، متأخراً، في 2016.

لا يستبعد غريش العوامل الثقافية في أزمة فرنسا مع الإسلام، والتي تظهر في قضايا كثيرة، أهمها موضوع حظر الحجاب، فيحاول تفسير العَلمانية في الفصل الخامس “لمحة موجزة عن العَلمانية” ويتحدث عن رؤية الإسلام للمرأة، في مناقشة تجمع بين مقاربة الرؤية الفقهية، وبين الممارسات التاريخية للمسلمين، كما في الفصل الثاني “عن الإسلام والمسلمين” والفصل التاسع “حول اضطهاد المرأة المسلمة”.

يضيف غريش إلى الأبعاد الدينية والثقافية والاقتصادية (الحديث عن تهميش المهاجرين المسلمين وحياة الضواحي في فرنسا)، أبعاداً أخرى، أبرزها التطرق إلى اعتبار “الإسلام فوبيا” أحد الأجندة الانتخابية لليمين الفرنسي، بالإضافة إلى البعد التاريخي، في علاقة فرنسا بالعالم الإسلامي، والذي يطرحه غريش في مقاربته الذاكرة الاستعمارية الفرنسية، في الفصل العاشر من الكتاب “فقدان الذاكرة الكولونيالية” المسألة التي لم تناقش كما يجب، بحسب الكاتب.

يرى غريش أن تاريخ الاستعمار “هو الغائب الأكبر عن النقاش حول الحجاب” خاصة في الفضاء الفرنسي. فيسرد قصة المصور الفوتوغرافي الفرنسي، مارك غارانجيه، والذي صور مئات النساء الجزائريات إبان الحقبة الاستعمارية الفرنسية، النساء اللواتي “أرغمن على نزع الحجاب والتصوير”. يصف غارانجيه تلك اللحظات “نظرن نحوي عن كثب لحظة التقاط الصورة، فكانت هذه النظرة أول شاهد على احتجاجهن الصامت والعنيف”.

يشرح غريش، كيف تحول إجبار النساء في الجزائر على خلع الحجاب، ودعوات تحرير المرأة الجزائرية (برعاية فرنسية) إلى جزء من معركة الاستقلال عن فرنسا. يكتب غريش: “أمام هذه الاعتداءات (إجبار الجزائريات على خلع الحجاب) عادت ردود الأفعال القديمة للظهور، فارتدت النساء الجزائريات اللواتي نزعن الحجاب، منذ زمن طويل، الحايك من جديد، وذلك بشكل عفوي، ومن دون تنسيق، مؤكدات عدم موافقتهن على تحرير المرأة بدعوى من فرنسا ومن الجنرال ديغول”.

إنها ببساطة الجذور القديمة، التقليدية، لمسألة الحجاب والإسلام في فرنسا. فهي امتداد لـ “عبء الرجل الأبيض” لتحرير “الشعوب البدائية”. وهنا يضع غريش ملاحظته حول تلك القيم “قامت الثورة الفرنسية على تناقض بين مُثلها الكونية وبين رؤية تحصر تطبيقها على البيض”. يعود الكاتب إلى القراءات الأساسية للدراسات ما بعد الاستعمارية، التي أسسها إدوارد سعيد في “الاستشراق”، فيتحدث عن “ابتكار الشرق” ودور “دوام الأحكام المسبقة” في مقاربة قضية الإسلام في فرنسا.

لا يخفي ألان غريش الجانب الشخصي لمقاربته موضوع الإسلام في فرنسا، وهو الذي ولد في القاهرة، واحتك بالعرب والمسلمين باكراً، ويتحدث العربية بشكل ممتاز. يكتب غريش عن العدوان الثلاثي على مصر في 1956 “لم أفهم، أنا الذي أتحدر من ثقافة فرنسية وأتكلم لغتها أفضل من العربية، لماذا كانت الطائرات الفرنسية تقصفنا. بكيت عندما علمت أن بورسعيد استسلمت، وفرحت لإعلان انهزام المعتدين”. لكن غريش، والذي ولد لأب قبطي وأم يهودية كما أكد في الكتاب، لم ير نفسه كمنتمٍ لفضاء ثقافي غير الفضاء الفرنسي، يكتب “على الرغم من حملي الجنسية المصرية، لم أشعر أنني مصري أبداً. وإلى اليوم، وخلافاً لكثيرين من أصدقائي الذين غادروا البلاد العربية في ذلك الوقت، لا أشعر بأيّ حنين”.

في الفصل الثاني “عن الإسلام والمسلمين” يحاول غريش أن يشتبك مع فكرة دارجة، يراها منبع سوء الفهم الموجه إلى الإسلام كدين، والمسلمين كشعوب، وهي مماهاة الإسلام بالمسلمين. يكتب غريش “يسود الاعتقاد أن الإسلام يمكنه تعريف واقع العالم المسلم، وأننا إن علمنا ما يقوله القرآن حقاً، فسنفهم حينها هذا الشرق الغامض الذي لا ينفك يفلت منا”. يصف غريش هذه الفكرة بـ “سوء الفهم الأخطر على الإطلاق”.

هنا لا يكتفي غريش بتأكيد “عدم تجانس” العالم الإسلامي، خاصة من الناحية الاجتماعية والثقافية، ولكنه يقارن بين تأثيرات الكتاب المقدس على المسيحيين مع تأثيرات القرآن على المسلمين، ليستنتج أن هناك اختلافاً في تناول المسألتين “عندما نتحدث عن المسيحية فإننا نأخذ في الحسبان تعدد معاني المصطلح والوقائع المتغيرة والمتناقضة أحياناً التي يُحيل عليها، فألفا عام من التاريخ ساهما في تبديل معناها كلياً. عندما يتعلق الأمر بالإسلام، غالباً ننسى هذه المقاربة”.

في مقارنة مسألة الإسلام والعنف، يرى غريش، أن الإسلام لم يطرح مقاربة مختلفة عن المسيحية، يكتب “لا يزيد الإسلام عن المسيحية بشيء في هذا الخصوص، فهو ليس سلمياً ولا حربياً بطبيعته، وإنما قُرئت نصوصه بطرق مختلفة، بل ومتناقضة تبعاً للظروف”.

لكن الأمر يذهب أبعد من ذلك، ففي الوقت الذي يرصد فيه غريش الازدواجية في التعامل مع الأدبيات المسيحية والإسلامية، يؤكد تطابق مقاربة اليمين المتطرف الفرنسي، والتيارات الإسلاموية المتطرفة، فهي كلها، من وجهة نظر غريش تؤمن بـ “وحدة الإسلام ووحدة الأمة المسلمة؛ فتنتج عن القرآن والسنة عقيدة من كتلة واحدة متجانسة لا تتغير وتطبع كينونة المسلمين”.

لا يلغي الكاتب وجود رابط بين النصوص الدينية والوضع الاجتماعي، لكنه يؤكد أن “وضع المرأة ليس نتاجاً قرآنياً، لكن اضطهادها يمكن أن يجد حجة في هذه الآية أو تلك، أو كيفية تأويل التراث لها”.

يرى غريش، أن هناك أربع سمات مهمة لفهم العالم الإسلامي اليوم، وهي أن العالم الإسلامي يقع ضمن دول العالم الثالث “أي عالم تابع ومسيطر عليه وينخره الفقر وانعدام المساواة على الرغم من التفاوتات العميقة بين البلدان” و”أن هناك شعوراً دينياً حاضراً وبقوة” و”شعوراً متأصلاً بوحدة الأمة”، أما السمة الرابعة فهي “نشر قراءة محافظة جداً للدين انطلاقاً من السبعينيات”. وهي الحقبة التي تعرف بـ “الصحوة الدينية” ويرى غريش، أنها شُجعت من السعودية، على المستويين الديني والمالي.

قارب ألان غريش موضوعاً مطروقاً، “علاقة الإسلام بأوروبا”، وربما كان فهمي جدعان من أبرز العرب الذين قاربوا الموضوع، في كتابه “الحرية والمقدس” والذي تناول فيه إضافة إلى موضوع الحجاب في فرنسا، مسألة الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام. كما تناول المفكر الفرنسي البارز، تزفيتان تودوروف، الموضوع من زاوية فلسفية، في كتابه “الخوف من البرابرة” والذي قارب فيها ثنائية حضارة/بربرية من خلال تعامل فرنسا مع المسلمين، ومقاربة الجمهورية لقضايا الذاكرة، ليرسخ الحق بالخصوصية الثقافية، دون أن يلغي وجود شيء ما، عابر للثقافات. لكن أطروحة غريش في “الإسلام والجمهورية والعالم” مختلفة، لأنها جاءت أكثر تنوعاً وشمولاً، ونقدية، لمسائل متادخلة، إعلامية وسياسية وفكرية.

لكن أهم ما يبرزه غريش، ليس الدور الذي يلعبه “سوء الفهم” في علاقة المسلمين بالجمهورية الفرنسية، ولكن الجهات المستفيدة من حالة التوتر، والتي ترتزق منها سياسياً، من صحف وقنوات تلفزيونية وباحثين وسياسيين، يأتي على رأسهم حزب “الجبهة الوطنية”، اليميني المتطرف برئاسة، ماري لوبان اليوم، التي صنعت جل مجدها السياسي من محاولة الدفاع عن هوية جوهرانية فرنسية منغلقة، لا مكان للمسلمين فيها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى