ألا تسمع نباح الكلاب..؟ للكاتب المكسيكيّ خوان رولفو
ترجمة: محمّد محمّد الخطّابي
أنت الذي هناك فوق، إغناثيو، قل لي إذا ما كنت تسمع أيّ شيء، أو إذا ما كنت ترى أيّ ضوء في أيّ مكان،
– لا أرى شيئا.
– لابدّ أنّنا قد دنونا من القرية
– نعم، ولكن لا يسمع أيّ شيء
– أنظر جيّدا
– لا يرى أيّ شئ
– مسكين أنت يا إغناثيو. .
ظلّ الرجلين الأسود والطويل يتحرّك من أعلى إلى أسفل متسلّقا الأحجار، ثمّ صار هذا الظلّ يكبر ويتضاءل بمحاذاة ساحل الجدول، كان ظلاّ واحدا يتمايل ويهتزّ .
كان القمر يخرج مثل جمرة مستديرة.
– كان علينا أن نكون قد وصلنا إلى القرية إغناثيو، أنت الذي توجد أذناك في الخارج أنظر جيّدا وإسمع إذا ما كان ينتهي إليك نباح الكلاب، تذكّر أنّهم قالوا لنا أنّ ‘ تونايا’ توجد خلف الجبل بقليل، ونحن منذ ساعات تركنا الجبل بعيدا، تذكّر يا إغناثيو.
– نعم ولكنّي لا أرى أثرا لشيء .
-لقد بدأت أتعب .
– أنزلني إذن .
تقهقر العجوز قليلا، ولمّا وجد حائطا إتّكأ عليه من غير أن ينزل الحمل الذي كان فوق كتفيه، وعلى الرّغم من أنّ ساقيه كانتا مقوّستين من فرط العياء فإنّه لم يجلس، فهو يعرف جيّدا أنّه بعد ذلك لن يكون في مقدوره النهوض من جديد وجسم إبنه على ظهره بعد أن ساعدوه على وضعه عليه منذ ساعات مضت .
– كيف أنت الآن ؟
– في حالة غير جيّدة .
كان قليل الحديث، وفي كل مرّة كان حديثه يقلّ أكثر، وفي بعض الأحايين كان يبدو كما لو كان نائما، وفي أحيان أخرى كان يبدو كما لو كان يشعر ببرد شديد، كان يرتعش، يعرف ذلك عندما يمسك به إبنه حيث كانت رجلاه تهتزّان كأنّهما داخل مهماز وكانت يدا الإبن موثوقتين بقوّة إلى عنق أبيه وكان رأسه يتأرجح كما لو كان صنجا أو جلجلا.
كان الرجل يشدّ على أسنانه حتّى لا يعضّ لسانه، وعندما ينتهي من ذلك كان يسأل إبنه :
-أما زالت الآلام تبرح بك ؟
فيجيب الإبن :
– بعض الشيء .
في البداية قال له ضعني عنك، أتركني هنا واذهب أنت لوحدك، سوف ألحق بك غدا، أو عندما أخفّ قليلا، قال له هذا حوالى خمسين مرّة، والآن لم يعد يقوى على قول أيّ شيء .
هناك كان القمر قد إستوى أمامهما كبيرا مستديرا يميل إلى الحمرة، كان يملأ عيونهما شعاعا، ويجعل ظلّيهما يبدو أطول من المعتاد على أديم الأرض .
قال :
– لم أعد أعرف إلى أين أنا ذاهب .
ولم تأته الإجابة من أحد، الآخر، إبنه كان هناك على ظهره يستمتع هو الآخر بضوء القمر بوجهه الشاحب، كان يشعّ منه ضوء ‘خافت’ كئيب وهو هنا في الأسفل.
– أتسمعني يا إغناثيو ؟ إنّني لا أرى أيّ شيء .
وكان الآخر يستغرق في صمت رهيب. إستمرّ في المسير وهو يتعثّر في خطواته، يحاول تثبيت جسمه إلا أنّه سرعان ما يعود إلى التعثّر من جديد .
– أعتقد انّنا قد ضللنا الطريق، قالوا لنا أنّ قرية طوناية توجد وراء التلّ، ولقد إجتزنا الهضبة وطوناية لا ترى للعيان كما أنّه لا يسمع أيّ ضجيج يدلّ على قربها منّا .
– لماذا لا تقل ماذا ترى أنت هناك فوق يا إغناثيو
قال الولد : – أنزلني يا أبتي
– أما زلت تشعر بالألم ؟
– نعم
– سأذهب بك إلى طوناية مهما كانت الظروف، وهناك سأجد من يعتني بك ويرعاك، يقولون أنّ بها طبيبا سأذهب بك عنده، جئت بك محمولا منذ ساعات ولن أتركك مجندلا هنا ليقضي عليك أيّ كان. تمايل قليلا ثم تقدّم خطوتين او ثلاث خطوات على جنب، ثم عاد فاستقام، فثبت في مكانه من جديد .
– سأحملك إلى طوناية
– أنزلني
أصبح صوته خافتا أشبه بالهمس .
– أريد أن أنام قليلا .
– نم هناك في أعلى فإنّني أمسك بك بقوّة .
كان القمر يزداد صعودا ويكاد يتوسّط كبد سماء صافية، يكاد لونه يميل إلى الزرقة . إمتلأ وجه الأب المبلّل بالعرق ضوءا، أخفى عينيه حتّى لا يرى أمامه، إذ لم يكن في مقدوره أن يحني برأسه المشدود بقوّة بين يدي إبنه .
– كل ما أقوم به نحوك ليس إرضاء لخاطرك، بل إنّني أفعل ذلك من أجل المرحومة أمّك، لأنك كنت إبنها لهذا أفعل ما أفعل، فهي لن يروقها أن أتركك مهجورا هناك حيث وجدتك وألاّ أحملك وأذهب بك لتعالج كما أفعل الآن، هي التي تشّجعني على ذلك ولست أنا، منذ البداية لم أجد معك سوى المشاكل والعذابات، لقد شعرت بالخجل غير ما مرّة بسببك .
كان العرق يتصبّب منه وهو يتحدّث، إلاّ أنّ ريح الليل كانت تجفّف عرقه، وعلى العرق الجاف يعود ليعرق من جديد .
– سأكلّ، سأتعب ولكنني لابدّ لي أن أصل بك إلى طوناية حتّى يخفّفوا عنك الجراح التي ألحقوها بك، وإنني على يقين انّك عندما ستشعر بتحسّن ستعود إلى سيرتك المارقة الاولى، ذلك لم يعد يهمّني مهما ذهبت بعيدا حيث لا أعلم عنك شيئاعلى الرغم من ذلك فأنت بالنسبة لي لم تعد إبني، لقد لعنت الدم الذي يجري في عروقك منّي،فالقسط الذي يعود منه لي قد لعنته، إنني أقول ‘ فليتعفّن في كليتيك ذلك الدم الذي منحتك إيّاه’ لقد قلت هذا منذ طفقت تسلك تلك السبل العوجاء الملتوية، تعيش على السّرقة وقتل الناس..الناس الطيّبين، وإلاّ فهناك وصيّك ترانكيلينو الذي أشرف على طقوس عمادك، والذي أختار لك الإسم الذي تحمله اليوم، لقد حالفه سوء الطالع هو الآخر بلقائه بك منذ ذلك الإبّان، قلت حينها هذا لا يمكن أن يكون إبني .
– أنظر إذا ما كان يتراءى لك شيء، أو إذا كنت تسمع شيئا أنت الذي توجد هناك فوق، فأنا هنا أشعر وكاّنني قد أصبت بالصّمم .
– لا أرى شيئا
– من سوء حظك يا إغناثيو .
– أشعر بالعطش
– أصبر، لابدّ أننا قد دنونا من القرية، فالظلام الدامس قد أطبق، ولابدّ أنّهم قد أطفأوا الأنوار.ولكن كان عليك على الأقل أن تسمع إذا ما كانت الكلاب تنبح، أرهف السّمع .
– أعطني قليلا من الماء
– ليس هنا أيّ ماء ليس هنا سوى الأحجار،عليك أن تصبر، فحتّى لو كان هناك ماء فلن أنزلك لتشرب،فلن أجد أحدا يعينني على حملك مرّة أخرى وأنا وحدي لن أستطيع فعل ذلك .
– أشعر بعطش ونوم شديدين .
– أتذكر عندما ولدت، هكذا كنت في ذلك الوقت كنت دائما تصحو جائعا لتأكل ثم تعود لتنام، وكانت أمّك تناولك الماء بعد أن تكون قد أتيت على حليبها، لم تكن تشبع أبدا، كنت عصبيّ المزاج، ولم يخطر ببالي قط أنّ حنقك وغضبك سيصعدان إلى رأسك…ولكن هذا ما حدث، أمّك رحمها الله كانت تأمل أن تنمو قويّا صلب العود، كانت تعتقد أنك ستكون خير معين لها فلم يكن لديها سواك، أخوك الذي كان سيولد بعدك قتلها، وأنت كنت ستقتلها مرّة أخرى لو كانت لمّا تزل على قيد الحياة الآن .
شعر أن ّ الرجل الذي كان يحمل على كتفيه لم يعد يشدّ على ركبتيه، وبدأ يرخي قدميه اللتين أصبحتا تتأرجحان متدلّيتين على جانبي جسمه وخيّل إليه أنّ رأسه هناك في أعلى قد بدأ يهتزّ ويتشنّج، وعلى شعره أحسّ وكأنّ قطرات سميكة كالدموع تملأه .
– أتبك يا إغناثيو ؟ هل تبكيك ذكرى أمّك أليس كذلك ؟ ولكنك لم تفعل قط شيئا من أجلها، لقد جازيتنا دائما بالسّوء يبدو أنه بدل الرقّة فقد ملأنا جسمك بالشرّ، وها أنت ترى الآن، ها قد جرحوك، ماذا حدث مع أصدقائك ؟ هل قتلوهم جميعا، فهم ليس لديهم أحد، كان بإمكانهم أن يقولوا ليس لدينا من نمنحه أسفنا، أمّا انت يا إغناثيو ؟
أخيرا ها هي ذي القرية. رأى سطوحها تشعّ تحت ضوء القمر، شعر أنّ ثقل إبنه ينهكه ويهدّه عندما أحسّ أنّ مرفقيه يتقوّسان عند آخر مجهود يبذله، وعندما وصل إلى أوّل جدار إتّكا عليه، كان جدار الرصيف وأرخى الجسم المنهوك، شعر وكانّه يفصل عنه فصلا . فكّ بصعوبة أصابع إبنه التي ظلت تضغط بقوّة على عنقه طوال هذه المدّة، وعندما تحرّر منه سمع نباح الكلاب يتناهى إليه من كل اتجاه .
– وأنت ألم تكن تسمعها يا إغناثيو؟ – قال الرجل لم تسعفني حتّى بهذا الأمل..!
‘ من أشهر وأهمّ كتّاب أمريكا اللاتينية في القرن العشرين(1917-1986 )، هذه القصّة من مجموعته ‘السّهل يحترق’ (1953) التي نال بها شهرة عالمية .