ألبرتو مانغويل: الأساطير التي نحيا بها
شكير نصرالدين
زوس، أثينا، أورفيوس، عوليس، ميدوزا، إنهم رمز الشجاعة والرعب، غالبا ما تخشى معاشرتهم. لقد هدهدت قصصهم الطافحة بالحب والموت طفولة الانسانية.إنها أساطير تغزو شاشات السينما كما تملأ خيالنا.تغرينا رؤية أوديب في كل فتى، وأنتيغون في كل فتاة متمردة.
لماذا تستمر الآلهة والأبطال اليونان في الاستحواذ علينا؟ ربما لأن هذه الأساطير، كما قال فرويد، هي نزعات الإنسان الأكثر بدائية: الجنس، السلطة، والتعطش للانتقام: أهواء تلتهم كل واحد منا وتتحدث إليه في الآن نفسه.
تغتنيأ حياتنا اليومية بالآلهة والأبطال القادمين من اليونان.في اللغة المعتادة نستعمل (عقب آخيل)، وأغنية البوب (فينوس، فرقة شوكين بلو)، في الصفحات الأولى للجرائد (أوديسا الناتو)، في الطريقة التي نشير بها إلى (أدونيس الموضة)، في اللغة السياسية والسيكولوجية (كائن نرجسي)، (الانخراط في عمل هرقلي)، إضافة إلى العبارات الجاهزة (خرج من فخذ جوبتير’وتعني عريق النسب). وأيضا في أسماء الأماكن (الشانزلزيه)، وعلم الفلك (أسماء النجوم)، في الشعارات والعلامات التجارية (فنادق عطارد): في كل حين، تضفي الميثولوجيا ألوانها على الطريقة التي نسمي بها العالم.
فكر اجتماعي
ربما لا نعرف من كانت ميدوزا M’duse تلك ـ لكننا نعرف ما المقصود بعبارة ”tre m’dus”، (يندهش المرء). قد لا نفهم خبايا تراجيديا أوديب الحقيقية، لكن عقدة أوديب، التي أطلقها فرويد، تساعدنا في وصف ابن الجيران الصغير، المتشبث بأحضان أمه. إننا لا نعرف أحيانا الكثير عن الجبابرة Titans ، لكننا نتقبل فكرة أن مهمة شاقة هي عمل ‘جبار’.
على هذا النحو أو ذاك، يكون لهذه الأسماء صدى في لغتنا وأفكارنا اليومية، هذا رغم أن النشاط الفكري أخذ يفقد مكانته الرفيعة بصورة متنامية دوما. ومع أن مدارسنا لم تعد تفرض دراسة العالم القديم، فإن متخيلنا الجمعي يرفض التخلي عن آثار تشكلت مما حلم به فكر الأسلاف من أجلنا.وبصفتنا مجتمعا، نستطيع بالتأكيد التقرير أننا نضع فوق كل شيء الرفاهية المادية والربح المالي، وأن نجعل من لغة الدعاية اليابسة فضيلة والإعلاء من قيمة الخبر الفوري، بدل مما قد يتطلبه تفكير طويل. ورغم كل ذلك، وتحديدا خارج الجدران التي شيدناها للاحتماء من التعقيد والغموض، فإن حكايات الانتقام والغرام القديمة، والمواليد المذهلة والميتات المرعبة، والمسوخات والنشأة، واللعنة والبحث ، تستمر في مطاردتنا وزعزعة أسس نزعتنا النفعية العنيدة.
إن الميثولوجيا ليست فحسب جمعا للحكايات الشعبية التي نشأت من الخيال الجامح عند شاعر قديم، أو ذلك التداخل المعقد بين أفعال الآلهة وأفعال الأبطال، الكفيل بتغذية المتخيل الجمعي.كما أن الأمر لا يتعلق بالنقل التبسيطي للتجارب البدائية للإنسانية في مواجهة الأحداث الطبيعية.
تعتبر الميثولوجيا سعيا منسجما لاستعادة التطابق الملحوظ بين أحداث الطبيعة وأحداث المجتمع، من خلال منطق شعري.إنها منظومة تفكير صلبة وصفها الفيلسوف جيانبتيستا فيكو Giambattista Vico (1668 ـ 1744) بأنها ‘ليست زائدة عن العقل، وإنما هي تَجَلِّي عميق وضروري للمجتمعات البدائية’.إن الميثولوجيا فكر اجتماعي.
ما نحن عليه
إن ميثولوجيا المجتمعات الغربية هي بالأساس ميثولوجيا اليونان.وحسب روبير غراف Robert Graves، مؤلف كتاب أساطير يونانية (1968)، قبل الغزو اليوناني في الألفية الثانية ق.م، كانت أوربا تتوفر على آلهة متعددة، لكنها كانت تعبد إلهة واحدة خالدة منزهة القدرة كانت تحكم تعاقب الفصول، ونمو المحاصيل، ومعجزة المواليد.أما الآلهة الذكورية التي جاء بها الغزاة فقد تم قبولها تدريجيا في مملكة هذه الإلهة الأنثى الوحيدة، و مع توالي الفترات، تكاثرت وتحولت إلى جماعة متعددة من الآلهة الأنثوية والذكورية التي انتهى بها المطاف إلى الاستقرار في جبل الأولمب. عندما كان هوميروس يحكي قصصه في القرن الثامن ق.م ، فإنه كان يقدم لمواطنيه (ولكل الأجيال المتلاحقة ) صيغة شعرية لهذه السُّبُل الطويلة والمعقدة التي تولدت عنها تلك الرؤية ‘الأوربية’ للعالم.
و تعد هذه الرؤية أيضا كونية، بالمعنى الأعمق للكلمة، ولو أن علماء الأنثربولوجيا المعاصرين يستخفون بهذه المقولة.أسطورة أنتيغون Antigone تساعد في تسمية تراجيديا الحرب، ليس فقط في اليونان القديمة بل وأيضا في فرنسا المحتلة، في العراق وأفغانستان، ويوغوسلافيا السابقة، من خلال مختلف تنويعاتها المسرحية من سوفوكليس Sophocle إلى جان أنوي Jean Anouilh (1910 ـ 1987)، مرورا بهولدرلين H’lderlin وجان كوكتوJean Cocteau (1889 ـ 1963).إن أسطورة عوليس Ulysse تحدثنا عن ترحالنا وبحثنا عن موئل وعن طريق المنفى اللانهائي. بعد هوميروس، تم العودة إليها في عصر النهضة من خلال دانتي Dante(1265 ـ 1321) في إيطاليا، وفي فرنسا، عبر قصيدة دو بيلي du Bellay (1522 ـ 1560) المشهورة والتي مطلعها: ‘سعيد ذاك الذي، شأن عوليس، قام برحلة جميلة’، قبل أن يعيد كتابتها شكسبير في ترويليس وكريسيدو، حوالى سنة 1622. وبالطبع، فوق كل ذلك وذاك، من خلال عوليس(1922) جيمس جويس.إنها تستوطن رغبتنا الخالدة في البحث عن المغامرة.أسطورة عائلة آل أرتريد الملعونة تسكن خشبات مسرح أثينا وتختزل المصير الإنساني. إن صداها يتواصل إلى ما لا نهاية في مسرحيات إيفيجينيا غوته Goethe المختلفة، و في القرن العشرين، في الحداد يليق بإلكترا (1931) للمسرحي أوجين أونيل Eugene ONeil، في اجتماع عائلي بقلم ت.س.إليوت، ومسرحية جان بول سارتر الذباب (1943)، وعلى مقربة منا لاكاساندر (1983) للألمانية كريستا وولف Christa Wolf.في مقدمته لكتاب بوفار وبيكيشي Bouvard et P’cuchet (1861)، ذاك المشروع الحاد لتفكيك الأساطير الذي وقعه غوستاف فلوبير، كتب ريمون كونو Raymond Queneau تلك العبارة التي باتت مشهورة : ‘كل عمل أدبي عظيم هو إما إلياذة، أو أوديسا’.
كل ثقافة وكل حقبة تمنح لهذه الأسطورة أو تلك من أساطيرها المؤسِّسة أهمية وقيمة مميزتان، تستخف بها أو ترتفع بها إلى المراقي السامية، تفككها أو تعيد بناءها. وحتى عندما تدير ثقافة ما ظهرها للأساطير، فهذه الأخيرة ترفض الاختفاء، وتسكن آلاتها السردية المحكمة اللاوعي الجمعي. فهذا بروميثيوس يحلق في سماء هيروشيما وتشيرنوبيل، وتنبعث طروادة من رمادها في كل منطقة من مناطق النزاع، وينتصب طيف ميداس في ظل الأزمة المالية الراهنة. وسواء أردنا ذلك أم لم نرده، فنحن لا نكف عن سرد هذه القصص التي تعيننا في تذكر ما جعلنا على ما نحن عليه، وفهم ما قد نستطيع أن نصير إليه.وسواء كنا على استعداد لمواجهة تبعات مثل هذه المعرفة أم لا، فتلك بالتأكيد مسألة مغايرة تماما.
القدس العربي