ألبوم أكرم الحوراني” قبل أن تصير كل الصور السورية صورة شخص واحد/ رستم محمود
ثمة ألبوم من الصور، في القسم الأخير من كل مجلد من مجلدات مذكرات أكرم الحوراني الطويلة والشيقة. الحوراني الشاهد والفاعل ورجل السياسة والأيديولوجيا والمجتمع في سوريا، طوال عقود طويلة، منذ ثلاثينات القرن المنصرم وحتى الستينات منه، أحد المؤسسين الرئيسيين لحزب البعث الذي حكم لأكثر من نصف قرن، ورجل سوريا القوي في زمن الوحدة مع مصر. ألبوم يغطي أربعة عقود بالضبط، تلك التي يمكن تسميتها ونعتها بعقود الحداثة السياسية والمجتمعية في بلاد المشرق العربي كلها، عقود الانتقال من البداوة إلى المدنية ومن الكتاتيب إلى المدارس، ومن الحمولة إلى البرلمان، ومن العصبية إلى المواطنة.
يشكل ألبوم الحوراني تلخيصا معرفيا لمذكراته الطويلة (أربعة أجزاء، حوالى 3500 صفحة)، كما أنه -الألبوم- يبدو كأداة بصرية بالغة الدلالة على تحولات المجتمع السوري في تلك الحقبة السياسية من تاريخه المعاصر .
صور الثلاثينات، حيث بدايات التأثر بالاستعمار الفرنسي معرفياً وسياسياً وسيميائياً. حيث أشكال التجمهر والاعتراض الأولى، صور الفلاحين والعمال السوريين التقليديين، بثيابهم الفضفاضة ووجوههم القاسية، يقفون بجلل أمام عدسات المصورين، وهم يحملون لافتات تندد بهذا «الاستعمار الفرنسي» في الساحات العامة بمدن البلاد، من دون ورع وخشية واضحة من الآلية العسكرية للمستعمر، وبثقة تامة بقدرة الفعل المدني السلمي على فعل الكثير من المكتسبات وتحصيلها.
الوجوه ذاتها، وتلك الساحات العامة نفسها، يمكن أن تراها وهي تودع الوفد السوري المغادر لمفاوضة الاستعمار على حرية البلاد عام 1936، وهي ترفع أعلام الاستقلال والابتسامة تعلو محياها، من دون وجل أو رهبة من موقفها من تلك النُخب الحاكمة لها. صور للنُخب الحاكمة والبسطاء المحكومين في المكان ذاته، ومن دون أي حواجز نفسية أو طبقية بينهما، سوى بعض التباين في شكل الزي. فتلك الزعامات تبدو وقد تأثرت سيميائياً بـ «ثقافة» المستعمر بعمق. ألبوم الثلاثينات، دعوة مفتوحة لإعادة التساؤل عن ذاكرتنا تجاه المستعمر وأفعاله وتأثيراته -الأعمق من السياسة المباشرة- بنا، ودعوة أخرى لإعادة قراءة تاريخ طبقة كاملة، ما ملت الأدبيات التي تم تلقين أجيال كاملها ازدراءها وشتمها ووسمها بالعمالة والدونية، طبقة الزعماء الوطنيين التي حررت البلاد.
ألبوم الأربعينات يشير إلى صلات أعمق من اندراج المجتمع السوري في الحداثة السياسية، حيث صور الإضرابات الدمشقية والحلبية الشهيرة، إلى صور البرلمان السوري المقتحم من قبل القوات الفرنسية (ما الدولة وما المجتمع الحديث غير البرلمان والإضراب العام؟!)، إلى صور تجمهر الجماهير وسماعهم لخطب رجال السياسة، إلى صور أفراح الاستقلال والانتصار، وليس انتهاء بصور المقاومين السوريين في حرب 1948، حيث ثمة صور لكل زعماء سوريا السياسيين فيما بعد، وهم ببزاتهم العسكرية الكاملة أثناء تلك الحرب، أطباء ومهندسين وأولاد الذوات إلى جانب الفلاحين والعمال (ما الوطنية غير ذلك ؟!)، في تلك الصور، حيث تقف النساء إلى جانب الرجال، ومنهن زوجة الحوراني نفسه.
في صور الأربعينات ثمة أحساس عميق بأن سوريا أخرى كانت ممكنة، سوريا أكثر تألفاً وقدرة على أن تكون ملونة ومركبة وقابلة للتطور والتحديث بالتراكم. في صور الأربعينات كسر للكثير من الأوهام والنمطية التي لحقت بالمجتمع السوري فيما بعد. أوهام أرادت وسعت لتشكيل مخيلة عن كل جماعة سورية بعينها، الشيء الذي يمر بالضبط عبر إلغاء وإمكانية تكون مجتمع مدني سوري أساسه الطبقة الوسطى.
ألبوم الخمسينات، حيث جلسات البرلمان والسبابات المرفوعة والاعتراض (هل يمكن أن تجد سبابة واحدة مرفوعة، في برلمان ما، فيما بعد!)، حيث صور التداول والتشاور وتبادل وتسليم المناصب بين الزعماء، حيث يقف رئيس البرلمان «الحوراني» في واحدة من أشهر تلك الصور، يقف ويده اليمنى في جيبه، إلى جانب رئيس الجمهورية شكري القوتلي (هل يمكن تصور رئيس برلمان فيما بعد، وهو يقف واضعا يديه في جيبه بحضور رئيس الجمهورية!)، ألبوم الخمسينات، ألبوم الأفراد والذوات والحريات.
لا شيء مثل الخمسينات تم استبعاده فيما بعد، ذاكرة الخمسينات ورجالها، قوانين الخمسينات وأعرافها، أحزاب الخمسينات ومثقفوها ونُخبها وحياة الناس وقتئذ. في ألبوم الخمسينات ثمة عصارة ما كانت الثورة السورية تسعى إليه في أحلامها وتطلعاتها الأولى، دولة المدنية والحريات العامة والمؤسسات الحيادية والممثلة للجميع في السلطة.
ألبوم الستينات ألبوم الجماهير، حيث الناصرية والاشتراكية والعروبة، حيث العسكر والتأميم، حيث بداية عصر الانضباط والقولبة والالتزام والخضوع. ألبوم الستينات، ألبوم عن بداية السيطرة والسعي لهندسة المجتمع والسياسة.
في ألبوم الستينات حس خفي بأن كل شيء في الراهن لم يسقط من السماء، أنما تم بخطوات وعلى مراحل وبوعي تام. في ألبوم الستينات وعي لما يعنيه تحالف الأيديولوجيا مع العسكر، حيث أحدهما كاف لتصفية أي حياة ملونة، فكيف بكليهما معاً!
في ألبوم الحوراني اخضرار وحيوية، تحول وذاتية وفرادة. الأهم في ألبوم الحوراني، شهادته ودلالته على عمق الجمود والجفاف الذي أصاب العقود التي تلتها كلها، عقود القولبة القاسية والشمولية المزورة والاستقامة المزيفة والالتزام المنتحل والأحوال الملفقة. العقود التي كانت كلها ألبوم لمشهد واحد، أو صورة لشخص واحد، بينما كان الكل ظلاله.
يخلو ألبوم الحوراني من صوره في أيامه الأخيرة، منفياً خارج بلاده، وهو الإقطاعي الذي آمن بالاشتراكية، وبدأ بتوزيع أراضي أهله على الفلاحين، وتجاوز أية نزعات طائفية أو جهوية، وسعى بكل أصرار لإدخال أبناء الطوائف الأفقر والأقل قدرة إلى المؤسستين العسكرية والتعليمية. الحوراني الذي كان دوماً ذا مكانة مركزية في نشر التعليم والصحة العامة والقوانين التقدمية التي أفادت عموم البلاد. الحوراني الذي رفض سيطرة العسكر على الحياة وإن كانوا ينحدرون من الحزب الذي أسسه وقاده لأكثر من ربع قرن، الزعيم الشعبي الذي ما قبل قط أن يتحول لواجهة سياسية واجتماعية لنظام كان يعرف، في قرارة نفسه، جوهر طبائعه وممارسته. الحوراني الذي رحل منفياً، وما كان موته في المنفى سوى صورة مكثفة لموات البلاد كلها.
المستقبل