ألفابيت.. سقف مؤقت لوطن بديل/ ديمة ونوس
خلال السنتين الأوليين من الثورة السورية، كانت الإغاثة هي أولوية الناشطين السوريين. مواجهة الشتاء والصقيع وتأمين ملابس شتوية للأطفال وأدوية مناسبة للرشح والالتهابات وخافضات حرارة ومساعدة اللاجئين قدر المستطاع على اجتياز مرحلة نزوحهم بأقل خسائر ممكنة.
كان النشطاء واللاجئون يعيشون على أمل العودة قريباً. ذلك الأمل، جعلهم يعيشون في “المؤقت” من دون التفكير في حلول تشي بالاستقرار. الخيم منصوبة كيفما اتفق. العائلات تنام مع بعضها البعض. المساعدات محدودة وتكفي شهراً أو شهرين. الأطفال يقضون الوقت في الخيمة أو حولها إن سمح لهم الطقس باللعب قليلاً خارج “البيت”.
“نشطاء سوريون”، هي العبارة الدقيقة لوصف العمل في مناطق النزوح في البقاع المحاذي للحدود اللبنانية-السورية. هناك، لا وجود حقيقياً ودائماً لمؤسسات مدنية أو جمعيات أو منظمات دولية حكومية أو غير حكومية. إنها مبادرات لأشخاص انتقلوا للعيش في لبنان لظروف أمنية أو خصوصاً بعد انطلاق الثورة السورية.
لم تكن رنيم الشيخ ابراهيم تعلم أن عملها مع اللاجئين الذي بدأت فيه قبل سنة ونيف تقريباً، سيتّخذ صفتي الديمومة والاستقرار. كانت تظنّ دائماً أنه عمل مؤقت سيقتصر على تأمين الملابس والأحذية والأغطية والأدوية، لفترة مؤقتة قد تمتد شهوراً ستة على أبعد تقدير. رنيم بدأت تلملم ملابس عتيقة وأحذية وأغطية وكل ما يستطيع الأصدقاء المحيطين بها التخلي عنه. تجمعهم وترتّبهم بطريقة تليق بأبناء بلدها وتجد طريقة لإيصالهم إلى مخيّمات اللجوء في منطقة البقاع.
شيء بعد شيء. غرض بعد غرض. حجر بعد حجر وذاكرة بعد ذاكرة، تحوّلت الخيمة إلى “بيت” صغير ولم يعد الغطاء كافياً. صارت للخيمة أرض. وصار حصى الأرضية بحاجة إلى إسمنت و”سقف” الخيمة النايلون لم يعد يقي من الأمطار والثلوج فوجب استبداله بآخر مقوّى. وتبدّلت الأمراض بحسب الفصول والظروف المحيطة بأماكن إقامتهم قبل اللجوء إلى لبنان. اللاشمانيا والثعلبة والتهاب القصبات وأمراض الكلى بسبب المياه الملوثة. عدا عن الأمراض النفسية التي يعانيها الأطفال وأمهاتهم بشكل أساسي.
ومع اقتراب دخول الثورة السورية سنتها الرابعة، بات ملحّاً تجهيز الأطفال وتحصينهم وإكمال تعليمهم الذي توقف مع قدومهم إلى لبنان. وبعض هؤلاء الأطفال لم يدخل المدرسة بعد، ولا يعرف معنى الالتزام بدروس يومية. افتتحت رنيم أخيراً مع عاصم حمشو ومجموعة من الأصدقاء، “تخشيبات” للتدريس في أكثر من مخيم في تلك المنطقة. “ألفابيت” هي مباردة فردية بحتة ترفض الحصول على أي دعم من جهة حكومية أو غير حكومية ومن أي مؤسسة محلية أو عربية أو دولية، كي تحافظ على استقلاليتها واستقلالية الأطفال وكي لا تحسب على أي جهة أو فرد أو أجندة.
مسألة تعليم أطفال المخيمات ليست سهلة ولا بسيطة. تمّ نصب “التخشيبات” بمبلغ متواضع وتغطية الأرضية بالموكيت لدرء البرد وإحضار مقاعد مدرسية قديمة ومدافئ تعمل على الحطب وتوزيع حقائب مدرسية جديدة وكتب باللغتين العربية والإنكليزية والرياضيات ودعوة أساتذة جامعيين من اللاجئين أنفسهم برواتب متواضعة للتدريس. يصعب وصف مشهد الطلاب وهم قادمون صباحاً بكل جدية، حاملين حقائبهم الجديدة والسعادة تغمر عيونهم التي تحمل نظرات كبرت قبل الأوان. في عيني كل طفل، نظرة خبيرة جرّبت الحياة باكراً. وأي حياة! الموت والدمار والتشرّد والجوع والقهر والمرض. أطفال لا تنقصهم الجرأة ولا الشجاعة لمواجهة حياتهم الجديدة “المؤقتة”. يتحدثون بطلاقة عن رغباتهم ومشاعرهم وأحلامهم. يعرفون حقوقهم أكثر بكثير من جيل “طلائع البعث” و”شبيبة الثورة”.
الأهم، أن هؤلاء الأطفال يحصلون في هذه “الصفوف” الصغيرة ذات الإمكانات المتواضعة على جرعة بديهية من احترام كينونتهم ومواطنيتهم. رنيم وعاصم صارمان في توصية الأساتذة التزام معايير محددة في التعامل مع الأطفال. لا صراخ.، لا ضرب، لا عقاب. بعض الطلاب، كان في الدروس الأولى متحضراً للقيام بدوره المعتاد كطالب مطيع ومرن ومدجّن. بعض الطلاب راح يهتف في الدروس الأولى شاكراً، إلا أن عماد حورية بادرهم بالقول: “لا تشكروا أحداً. أن تتعلموا، هذا واجب على أهلكم وواجب علينا”.
تحت سقف “الوطن البديل”، يمارس الطلاب اللاجئون حقهم في التعلم والمبادرة والحياة أكثر ربما مما كانوا يفعلونه تحت سقف “الوطن الأم”. هذا لا يقتل لديهم ولا لدى رنيم وعاصم وعماد الأمل بعودة قريبة.
المدن