“ألف ليلة وليلة”.. في الكلام غير المباح/ بدرالدين عرودكي
لم يحظ مُبْدَعٌ أدبي في تاريخ الآداب الإنسانية بما حظيت به حكايات ألف ليلة وليلة: اجتازت مئات السنين وشهدت عصور التنوير والحداثة والثورات العلمية والفكرية والأدبية من دون أن تتوقف عن متابعة طريقها إلى قلوب الناس وعقولهم وخيالهم على اختلافهم في المنبت والانتماء والمقام واللغة. ومع ذلك فهي تكاد تكون الوحيدة بين كبرى المبدعات الأدبية الإنسانية التي لا يمكن لأحدٍ، فرداً أو جماعة، زعمَ حيازته ملكيتها الأدبية. ويبدو أنه على الرغم من آلاف الصفحات التي حررت نتيجة البحث والتدقيق والتمحيص وبمختلف اللغات شرقاً وغرباً لا تزال النتائج منحصرة في ميدان الفرضيات، ولَمْ وربما لنْ يتمكن أحدٌ من قولٍ فصلٍ في هذا المجال.
ولن يغير من هذا الواقع على ما يبدو حتى اليوم ما يراه الباحث المغربي أبو بكر الشرايبي من ناحيته مُقرَّراً، بإجماع المؤلفين العرب في القرنين التاسع والعاشر، على اعتبار أصل ألف ليلة وليلة فارسياً ما دامت قد انطلقت من ترجمة كتاب هزار آفسانه أو ألف خرافة، الذي أشار إليه المسعودي (956) في كتابه مروج الذهب مثلما أشار إليه ابن النديم في الفهرست (995). وعلى أن أياً منهما لم يُسَمِّ من ترجم الكتاب إلى العربية ولا متى تمت ترجمته على وجه الدقة أو التقريب، فإن الشرايبي يخلص مما قالاه بيقين إلى ما رأى فيه تلاشي السرِّ عن ألف ليلة وليلة حين يقرر أن جوهر الكتاب “رسا في الأدب الفارسي المكتوب”. وهو ما لم يكن ليقطع به بهذه الطريقة كلٌّ من الشاعر والكاتب الجزائري جمال الدين بن شيخ (1930 ـ 2005) الذي قضى ما يزيد عن أربعين عاماً بحثاً دؤوباً حول هذا المبدع وصولاً إلى ترجمته ترجمة جديدة إلى الفرنسية بصحبة الكاتب والأكاديمي الفرنسي أندريه ميكيل. لم يقل كلاهما بـ”الرسو في الأدب الفارسي المكتوب” بل إنَّ “إيران قد أدت دوراً حاسماً عبر الترجمات التي قامت بها عن الهندية لعدد من المؤلفات مثل كليلة ودمنة أو سندباد الحكيم، وكذلك عبر إسهاماتها الخاصة، في هذا الكنز المشترك” وكلاهما أيضاً يريان أن في تحليل نصوص الحكايا ذاتها، ما يمكن أن يجيب عن كثير من الأسئلة التي ما فتئ مؤرخو نصوص الليالي يطرحونها من دون أن يعثروا على جواب حاسم في متون الكتب أو المخطوطات الكلاسيكية. إذ لا يخرج عن مجال الافتراض القول بأن ترجمة ألف خرافة قد جرت في النصف الثاني من القرن الثامن، لكن ما هو في منزلة المؤكد أكثر، وبدليل نصوص الليالي ذاتها في تلك الفترة، إسهامُ الهند في الحكاية/الإطار كما يقول بن شيخ. أما الدراسات التي تناولت ألف ليلة وليلة كما وصلت إلينا من طبعة بولاق الأولى عام 1835 في 122 حكاية ثم طبعة كلكتا الثانية عام 1839/1842 التي تعتبر أكمل طبعة لاحتوائها على 123 حكاية، فلسوف تبين لنا عبر تحليل مورفولوجية كل حكاية على حدة وتدقيق عناصرها وعباراتها وصيغها السحرية أو إشاراتها أصولَها الهندية أو الفارسية أو العربية.
ذلك أن هذه الدراسات قد أظهرت أيضاً فضلاً عن الأصول الهندية والفارسية في الليالي، آثاراً يونانية من خلال بعض الإشارات أو القرابات أو التفاصيل الإثنية. لكن الآثار العربية التي بلغت منزلة الأصول كانت تتكامل بالتدريج عبر رحلة هذا المبدع في الزمان بين القرن العاشر إلى القرن التاسع عشر وفي المكان من بغداد إلى دمشق فالقاهرة. رحلة انعطفت بكتاب ألف ليلة وليلة مخطوطاً عند وصولها دمشق نحو باريس ثم جعلت منها حين انتهت في مصر كتاباً ما كان للمسعودي أو لابن النديم أن يعثرا إلا على القليل مما سبق لهما أن قرآه فيه في القرن العاشر، والذي سينطلق اعتباراً من القاهرة ثانية إلى أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر كي يبدأ رحلته في العالم كأحد كبرى روائع الآداب العالمية.
رحلة ألف عام
خلال هذه الرحلة في الزمان التي استمرت ألف عام، وفي المكان، في بغداد أو في دمشق وحلب أو في القاهرة، كانت الحكايات تنسخ ويعاد نسخها مرات ومرات. وكانت كلما نسخت تزداد حجماً وتغتني بإضافات النساخ تعديلاً أو تصحيحاً أو إضافات جديدة من حكايات تشي بالمكان وبأهله، أو بالعصر وعاداته. فقد كان عدد نسخ المخطوطات الموجودة في أوروبا باستثناء تلك الموجودة في القارات الأخرى، والتي أحصيت في نهاية الرحلة، قد بلغ سبعين مخطوطة صنفت حسب انتمائها الجغرافي: فهناك الفرع السوري، الذي يضم الحكايات التي عرفتها الحقبة العباسية والتي نقل عنها الفرنسي أنطوان غالان، أي مخطوطات أحمد الرباط (الحلبي ثم الدمشقي) والذي أعاد حسب الباحث السوري إبراهيم العاقل كتابة نسختين على الأقل من الليالي: إحداهما مقسمة حسب الليالي، والأخرى بغير تقسيم وحملت عنوان سمر، كلاهما مقسم إلى أجزاء بعضها محفوظ في المتحف البريطاني وبعضها الآخر بين برلين وتوبنجن. أما الفرع المصري، فهو يضيف في المخطوطات التي كتبت فيها إلى حكايات الحقبة العباسية والشامية كل ما أضافه النساخ المصريون ولا سيما المخطوطات التي تنسب إلى علي الأنصاري ابن الشيخ إبراهيم الأنصاري التي بلغ عدد ورقاتها حسب إبراهيم عاقل 7677 ورقة وتمت بين 1800 و1810 وكانت أساس طبعة بولاق، ثم المخطوطتان اللتان أنجزهما في كلكتا عام 1829 نساخ عرف باسم علي سلطان، وكانتا مصدر الطبعة التي تنتمي إلى هذه المدينة. هكذا كثرت المخطوطات حتى جرت العادة أن يقال إن هناك من كتب ألف ليلة وليلة بقدر ما هناك من المخطوطات!
كان ذلك كله ماثلاً أمام جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل عندما باشرا العمل قبل أكثر من وطوال ما يقارب أربعين عاماً في مشروعهما المشترك: ترجمة ألف ليلة وليلة ترجمة جديدة تتجاوز نواقص وعثرات أو إهمال أو قصور الترجمات السابقة. لكن ذلك كان يحتاج بالطبع إلى مقاربة هذا المبدع الأدبي الفريد تاريخاً ونصاً، تحليلاً وفهماً، فضلاً عن العمل على إتاحة قراءته بمفاتيح تتجاوز القراءات التي أتاحتها تلك الترجمات.
هكذا كانت أولى كتابات بن شيخ عن ألف ليلة وليلة تقديم هذا المبدع بصورة إجمالية لا يعتورها خلل في المنهج أو الدقة في موسوعة أونيفرساليس الفرنسية (الجزء الحادي عشر) الصادرة عام 1968، والذي سيكون في الوقت نفسه مدخلاً إلى مشروعه الكبير: “ألف ليلة وليلة أو الكلمة السجينة” كما عنون كتابه الأول حول هذا المُبدع الذي صدر عام 1988 بعد أن شرع بالعمل في مشروع ترجمة جديدة مشترك لليالي إلى الفرنسية. كما كان أول ما كتبه أندريه ميكيل على وجه الدقة يؤلف مدخلاً إلى ما سيصير هو الآخر مشروعه الكبير والذي سيقوده بالضرورة إلى اللقاء والعمل جنباً إلى جنب مع جمال الدين بن شيخ، أي كتابه الذي نشره عام 1977 تحت عنوان “حكاية من ألف ليلة وليلة: عجيب وغريب”، واحتوى ترجمته للحكاية التي لم تكن ضمن حكايات ألف ليلة وليلة التي ترجمت من قبل إلى الفرنسية سواء تلك التي قام بها أنطوان غالان (1646 ـ 1715)، أو تلك الأقرب عهداً من الأولى والتي أنجزها شارل ماردروس (1868 ـ 1949) أو الترجمة الثالثة التي حققها رينيه خوام (1917 ـ 2004).
كما احتوى أيضاً دراسة واسعة بدأت في البحث في “العجيب” وفي “الغريب” انطلاقاً من اسميْ بطليْ الحكاية: عجيب وغريب! كي تصير نتيجة تحليل مختلف عناصرها بحثاً يعالج فضاء الحكاية وزمانها وحدثها وخطابها بما يجعلها تحيل إلى قراءة أخرى حسب حكاية جوهرية أساس، أي حكاية عربٍ منتصرين يرويها عربٌ مهزومون. على هذا النحو، سيعلن أندريه ميكيل في نهاية كتابه هذا بعد طرح الأسئلة وإن بصورة مواربة “ضرورة طبعة محققة للنص بما أثاره الكتاب من رغبة في التنافس مع تحفة على هذا القدر من العظمة، تحفة سيتوجب ذات يوم عبر عروبيتها ذاتها وسمُ المكانة الفريدة التي تحتلها في الأدب العالمي”.
ألف حكاية وحكاية
وسيشترك كلاهما مع زميل ثالث لهما، كلود بريمون، في كتاب صدر عام 1991 وحمل عنوان “ألف حكاية وحكاية عن الليل” وحلقات دراسية في الجامعة ستمتد حتى نشر الترجمة الكاملة اعتماداً على نسختي بولاق وكلكتا في أعرق سلسلة أنجزتها دار نشر فرنسية، سلسلة لابلياد عامي 2005 و 2006. ذلك أن “التنقيح المصري لليالي سيبلغ من العمر عما قريب قرنين من الوجود، وأنه ولد في بلد معروفٌ دوره في المحافظة على الكنز وأنه أخيراً كان مصدر أهم الترجمات”.
لكن ما يسترعي الانتباه في هذا الجهد المذهل تواضع الشريكين اللذيْن بذلاه، جمال الدين بن شيخ وأندريه ميكيل، حين يعلنان في مقدمتهما له أن الطبعة المحققة التي كانا يدعوان إليها لم تتحقق في هذه الترجمة إلا جزئياً. على أنه يكفي أن يستعرض القارئ المراجع التي اعتمداها، والمخطوطات التي درساها، وكافة الجهود التي أنجزت من قبل في ترجمة هذا المبدع الاستثنائي إلى اللغات الأوروبية كي يعلم أن هذه الترجمة ستبقى الترجمة المنجزة الأكمل لهذا المبدع الذي بات منذ زمن طويل جزءاً أساساً في تراث الإنسانية الأدبي.
ضفة ثالثة