ألمانيا تغنّي بالعربية/ أحمد عمر
مصطفى وفارس شابان في مطلع الشمس، ناجيان من غدر براميل الأسد، يتعلمان في الجمهورية الألمانية السورية اللغة الألمانية، في “مدرسة الشعب العليا” في “روسلس هايم”، الواقعة على ساعد شارع “آدم أوبل”. المدرسة مبنية من طابقين، قديمة ولكنها أنيقة، ممرّاتها نظيفة مثل المرآة، التي لو رآى نرسيس في بلاطها صورته، لعبد نفسه أكثر مما عبدها عندما رآها في مرآة الماء. فيها ثلاثة أنواع من الألواح للشرح. المعلمون لطفاء جداً، والممر يفضي إلى غرف الدرس، ويطلّ من الجهة الثانية على حديقة المدرسة. في الاستراحة، بتاريخ الثاني عشر من نيسان/ أبريل، والذي لن تذكره كتب التاريخ، أنشد مصطفى النازح من جروح حلب، ودندن أغنية “موطني .. موطني “.. مصطفى يروّح عن نفسه والغناء، وغالباً ما تجد في صفحته مقاطع بصرية (وصوتية طبعا) صوّرها بالفيديو لنفسه، وهو يغني ويشدو، فجاء الجواب عليه من زميله فارس، فلكل قرار جواب، ولكل جبل واد، ولكل فرعون هامان وموسى طبعاً، ولكل سيف جرح ينام فيه عن شواردها. الاستراحات غير متزامنة عادة بين الدروس. أنشد مصطفى ورفع عقيرته بالنواح والجراح، ومصطفى صوته عذب، قوي، مفعم بالشوق والمعنى، مثل السيل أحياناً، والسيف أحياناً، والتين أحياناً، والزيتون والقلعة أحياناً، وصباح فخري أحياناً، والمئذنة أحياناً، والناقوس أحياناً. فردّ عليه فارس، وفارس صوته ليس أقلّ شهداً وعسلاً، فصوته مثل حليب النوق، له رغوة أحياناً، ومثل النخل، له أعذاق وعراجين أحياناً، ومثل الصهيل، فيه ضبح أحياناً.
“موطني مووووووطني.. الجلالُ والجمالُ، والسناءُ والبهاءُ”. فردّ فارس، صوت المن والسلوى: “في رُباكْ، في رُباكْ” فرأينا في صوتهما، الحياة ببهجتها والنجاة بفرحتها، والهناءُ بجمامه، والرجاءُ بحباله الناعمة، وأمراسه القوية إلى صمِّ جندل، والحبَّ: “في هواك، في هواك”. غنّى مصطفى لموطنه ضارعاً، نازفاً، متبتلاً، خاشعاً، باكياً: هل أراكْ هل أراكْ؟ فأجابه فارس بجواب العتاب: “سالماً منعَّما، وغانماً مكرَّماً؟” أجابه بصوت كموج البحر أرخى سدوله علي بأنواع الهموم ليبتلي. ثم تابع مصطفى: “هل أرااااااكْ في علاااااااكْ”. وفارس من الشام من حي القزازين، والصوت يتطوح، ويتموج، وينجدل، ويرتدُّ في الممر المصقول الأنيق، ويصل إلى عنان الزجاج الشفاف وصلابة الجدران، فيعود كرة بعد إجفال، فيغيثه مصطفى منجداً: “تبلغ السِّماكْ.. تبلغ السِّماكْ؟”. ارتفع الصوتان متعاقدين بالأيدي والسواعد والجذوع إلى عنان السماك، فعندل فارس ناشداً على مقام النهاوند: “موطني.. موطني”. فواكبه مصطفى مثنياً على ندائه مشقرقاً على مقام الراست: “موطني موطني”
والموطن ساكت أخرس مكتوم لا يرد، بعيد، جريح. فَبَغَم فارس بمزمار من مزامير داوود: “الشبابُ لن يكلَّ، همُّه أن يستقلَّ”. فخرج صوت مصطفى من المحراب صادحاً: “نستقي من الـردى ولن نكون للعدى كالعبيد كالعبيد”. وهنا سكت الاثنان واقشعر شعر الحديقة العشب من حافات المياه الباردة في الصوت، وخرجت رؤوس من غرف الدرس بهدوء، بسرية، بخشوع، فلا تسمع إلا همساً، مدرسات قديرات في الهزيع الأخير من العمر الذي ليس فيه سوى الربيع، و مدرسات ألمانيات في ميعة الصبا، ومدرسون وطلاب من جميع أصقاع المعمورة المخربة بأيدي العبيد، خرجوا يحتسون بآذانهم من رحيق الأصوات المحبّرة تحْبيرا، فصاح مصطفى مزمجراً زائراً، وقد أخذت به نخوة العرب وكبريائهم التي لا يدانيها كبر ولا فخر: ل”اااااااا نريدْ، لاااااااااااا نريدْ”. فرد ّعليه شاكياً، غاضباً، متحدياً، واقفاً: “ذلَّنا المؤبَّدا وعيشَنا المنكَّدا”. ثم ارتخى الصوتان في صوت مضفور واحد، شلال: “لا نريدْ، بل نُعيدْ. مجدَنا التليدْ.. مجدنا التليدْ.. موطني، موطني”.
فخفت الجاذبية الأرضية، وكأننا صرنا على سطح كوكب القمر. المدرسون والطلاب، والعمال الذين في الحديقة يعمرون للنازحين مساكن طيبة، انطلقوا يحلقون مع موطن الشابين الجريحين اللذين اقتربا كثيراً في طيرانهما من الشمس مثل عباس بن فرناس فاحترق الشمع، وسقطا باكيين. مضرَّجين بالشوق والحنين.
صفّق الجميع، كان العمال الذين يعملون على بناء مخيمات إسمنتية سريعة مسبقة الصنع في الحديقة، قد وقفوا يصيخون السمع، ووضعوا أدواتهم وحمولاتهم خاشعين. صفّق الجميع بأجنحتهم، وقد عصرت أشواق الشابين بعضلاتها الخفية عيون بعضهم فاستخرجت الدموع من صخور الأعماق الصلدة. أثنى الجميع عليهما، وسكتوا في زفير استراحة لم يعرفوها من قبل. سألت المدرسة، باولينا، الألمانية اللطيفة: “أهذه أغنية سورية؟ كم هي حزينة ومؤثرة؟”.
قال مصطفى: “المؤلف من فلسطين اسمه، إبراهيم طوقان، والملحن من لبنان اسمه، إبراهيم فليفل، وكان نشيدًا وطنياً عراقياً ذات يوم، هي أغنية عربية”.
قالت باولينا: “شعرت بأنها أغنيةٌ ألمانية”.
العربي الجديد