مراجعات كتب

أليساندرو باريكو… أو “كيف تصبح قارئاً محترفاً”؟/ عماد فؤاد

 

 

خلال عام واحد، استطاع الكاتب الإيطالي أليساندرو باريكو، صاحب رواية “حرير”، أن يلتزم بنشر باب أسبوعي في صحيفة “لا ربيبليكا” الإيطالية، يكتب فيه على حلقات مسلسلة، عن أكثر خمسين كتاباً نالت اعجابه خلال الأعوام العشر الماضية. الكتاب الذي صدرت ترجمته إلى الهولندية، قبل أيام عن دار نشر “ده بازيخه باي” الهولندية بعنوان “فكرة محدّدة للعالم”، مثّل تحدياً كبيراً لصاحبه، كما يقول باريكو نفسه في مقدمته القصيرة للكتاب، إذ كان عليه أن يكتب عن أعمال مهمة بلغة صحافية مبسطة لتصل إلى أكبر قدر من القراء.

ربما يذكّرنا كتاب باريكو الجديد بالعديد من الكتب المشابهة، التي قدمها الكثير من الكتّاب العالميين حول الكتب التي أسهمت في تشكيل عوالمهم الأدبية وشخصياتهم. ولعل من أهم هؤلاء، الكاتب الأرجنتيني الأصل الكندي الجنسية آلبرتو مانغويل، صاحب “تاريخ القراءة” الذي أرّخ فيه لفعل القراءة عبر العصور التاريخية المختلفة، وكشف عبر صفحاته عن علاقته الخاصة بخورخي لويس بورخيس، وكيف ظل لعامين يقرأ له في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس. قدم مانغويل كذلك كتاباً آخر بعنوان “يوميات القراءة” رصد خلاله “تأملات قارئ شغوف في عام من القراءة” كما جاء في نص العنوان الفرعي للكتاب، لكن ما يكشف عنه كتاب أليساندرو باريكو الجديد “فكرة محدّدة للعالم”، ليس فقط شغفاً بالقراءة يماثل شغف مانغويل أو حتى يوازيه، بل يظهر عن ما يمكن لنا أن نسميه “حرفة القراءة”، أو “كيف تصبح قارئاً محترفاً”.

عبر صفحات الكتاب التي وصلت إلى 224 صفحة من القطع المتوسط، يأخذنا باريكو في رحلة سحرية لنقرأ معه عوالم العديد من الكتاب العالميين، الذين أجبرته كتبهم على التوقف ملياً أمام ذاته، وربما تسببت في تغيير مجرى حياته في لحظات مصيرية محددة، ليوقفنا أمام أعمال أدبية وفلسفية وتاريخية كبيرة، منها رواية “2666” للشاعر والروائي التشيلياني روبرتو بولانو، ورواية “الجميلات النائمات” للياباني ياسوناري كاواباتا، و”اذهب إلى أسفل يا موسى” المجموعة القصصية للأميركي ويليام فوكنر، و”ثلاثية أوبري” للروائية الإنكليزية ريبيكا ويست، كما يفاجئنا باريكو بتوقفه أمام السيرة الذاتية لتشارلز داروين، مستقصياً الأثر النفسي الذي خلفته داخله بعد قراءتها، وسرعان ما نفتح أعيننا لنكتشف أن من يطوف بنا، عبر هذا الكتاب كاتب مشاكس ومستفز اسمه أليساندرو باريك. لن يفوت الأمر قبل أن يقدم لنا مفاجئة من العيار الثقيل، تصدمنا وتجعلنا نعيد رؤيتنا لشخصية باريكو نفسه من جديد، وهو ما يحدث سريعاً حين يوقفنا ملياً أمام قراءته الآسرة لسيرة لاعب التنس الأميركي الشهير آندريه أغاسي، وكيف شكلت قراءته لهذه السيرة نقطة تحول في قناعاته التي تحكمت في ذائقته الأدبية لسنوات.

يؤمن باريكو بمقولة “أنت ما تقرأ”، وأننا حين نتحدّث عن عمل أدبي ما، نال استحساننا ورضانا أو لم يعجبنا ومر علينا وعلى أرواحنا مرور الكرام، فإنما نعبر بشكل ما عن رؤيتنا الخاصة والذاتية جداً عن العالم والأشياء، وكذلك يقدم للآخرين صورة وافية عنا، ولهذا يعتبر باريكو أن كل منا يملك “فكرة محدّدة للعالم” هي التي تتحكم في انحيازاته الحياتية بشكل عام، وهذه الفكرة قابلة للتغير والتطور بالقدر الذي نقرأ فيه، والقراءة لدى باريكو ليس لها حدود أو قوالب أو أشكال أو أنماط، فالرجل يشبِّه نفسه بدودة تلتهم كل ما يقع تحت أسنانها من كتب، فنجده في كتابه يكتب عن قراءاته في كل شيء، في الموسيقى والفلسفة، في التاريخ والرواية، في الشعر والسياسة، في الرياضة والطبخ، في الفن والعمارة، ونجده كذلك يجاور بين أسماء لا يمكن أن تكون متجاورة بحسب التصنيفات التي أهلكنا بها محترفو التصنيفات، فيضع الروائي والسيناريست الأميركي إلمور ليونارد المعروف بالكتابات السطحية والسريعة جوار الروائي الجنوب أفريقي جون كويتزي الحاصل على نوبل في الآداب 2003، أو يجاور بين الفيلسوف الأميركي ماتيو ستيوارت وبين الكاتب الأسباني خافير سيركا، أو يوآخي بين كاتبة الرواية البوليسية الفرنسية فريد فارغاس (الاسم المستعار للكاتبة الفرنسية فريدريك أوديو روزاو) وبين كاتبة الرواية التاريخية الإنكليزية هيلاري مانتيل.

ما يكشف عنه كاتب في حجم أليساندرو باريكو في كتابه الجديد، ليس فقط مواقفه وانطباعاته الذاتية عن الكتّاب أصحاب هذه الأعمال، وإنما يكشف لنا عن كيفية تحوله من قارئ عادي إلى قارئ محترف، قارئ يمتلك شغف الاستقصاء والبحث وسبر مجاهل عالم الكلمة المكتوبة، والخروج من متاهاتها التي لا تحدّ بكنوز ثمينة، يضعها بين أيدينا من وقت إلى آخر بين دفتي كتاب، فكما اشتغل سنوات على روايته المهمة “حرير”، مستقصياً فيها طريق تجارة الحرير بين الغرب والشرق في القرن التاسع عشر، قبل أن يخرجها إلينا نصاً صغيراً لا تتعدى صفحاته المئة صفحة في اللغة الإيطالية، لتحوله إلى كاتب عالمي بعد أن ترجمت إلى أكثر من عشرين لغة، وتتلقفها هوليوود في فيلم سينمائي لم يكن على قدر نجاح الرواية، كذلك أخرج باريكو لنا من قبل كتابة “البرابرة” مستقصياً فيه انحدار ثقافتنا الراهنة، ومبشراً بهجمة بربرية على عالمنا الحديث إن لم نبدأ في إعادة التعامل مع منجزنا الثقافي والحضاري برؤى جديدة، وها هو اليوم يضع بين أيدينا كنزاً أدبياً مثيراً وممتعاً وساحراً في الآن ذاته، قوامه قطرات معتّقة من رحيق خمسين كتاباً.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى