صفحات العالم

أما آن أوان المراجعة عند السوريين؟


ابراهيم الأمين

تعبر الأزمة السورية مرحلة أولى من المواجهة القاسية. ومع إقرار ارسال المراقبين العرب إلى المدن السورية، يدخل الجميع في مرحلة ثانية من الأزمة. لا ضمانات بأن الحراك سيتوقّف، ولا ضمانات بأن العمليات المسلحة لمجموعات متمردة ستنتهي، ولا ضمانات بأن الضغوط الخارجية دبلوماسياً وأمنياً واقتصادياً وإعلامياً ستزول. وبالتالي، سيكون سهلاً الاستنتاج أن لا ضمانات بتوقف العلاج الأمني من جانب النظام، بينما يستمر الانقسام على حدّته، وهو يتخذ يوماً بعد يوم شكل الاحتراب الأهلي، البارد أو الساخن لا فرق.

لكن، هل يجري السوريون المراجعة الضرورية؟

في جانب النظام، ثمّة مكابرة في الإقرار بأن تشخيص المشكلة لم يكن دقيقاً. أهمل أهل النظام العناصر الحقيقية للاحتجاج، تلك الناجمة عن تعسّف مستمر منذ سنوات طويلة، وعناوينه تتراوح بين تسلّط من رجالات الأمن على حياة الناس اليومية، في أعمالهم ومصالحهم في الدولة وخارجها، وبين تسلّط فئة حزبية على مناصب الدولة ومرافقها، حيث ساد الفساد وانتشر، وبين تراجع حادّ في أعمال التطوير السياسي والثقافي، ترافق مع قمع غير مفهوم، ولا أساس منطقياً له، أدخل سوريا حالة من الترهّل السياسي دلّت عليه الانتفاضة بقوة.

لدى أهل النظام من يقرّ اليوم بأن العلاج الأمني كان ضارّاً في كثير من الحالات، وفي كثير من المناطق، وأن الموقف من الحراك الشعبي في كثير من المناطق كان غير صحيح، وكان يمكن احتواء الموقف بإجراءات عملانية واضحة وقاسية، مثل توقيف المسؤولين عن إهانة أطفال درعا وتعذيبهم، أو الذين مارسوا القمع الأعمى في مناطق حمص وريفها، أو الاعتقالات العشوائية في حماه وريف دمشق.

أصحاب هذه الوجهة لا يجيبون عن سبب عدم حصول المساءلة والمحاسبة إلى اليوم، لكنهم يتحدثون، والقول ينتظر الفعل، عن قرار واضح بعملية تطهير واسعة ستجعل السوريين أمام سلطات أمنية من نوع مختلف.

في السياسة، يقرّ أهل النظام بأن التغيير قائم فعلياً، وأن التعديلات التي تجرى الآن على مواد الدستور تقول صراحة بأن المطلب الشعبي بإلغاء المادة الثامنة وإسقاط الحزب ـــ الدولة، قد تحقّق، وأن لا أحد في كل سوريا يقدر على تجاوز هذه الحقيقة. ويقولون أيضاً إن ملف الحريات الحزبية والسياسية سيتحوّل أمراً واقعاً لا تقدر أي سلطة على قمعه، أو حجبه، وحتى الحريات الإعلامية ستجد طريقها إلى الحياة سريعاً. ويبدو أن النقاش العملي الخاص بواقع الإعلام السوري الرسمي قد دخل مرحلة البحث في تغييرات كبيرة، قد تؤدي الى اختفاء وسائل اعلام حالية عن المشهد الصحافي.

لكن ثمة من خارج النظام، من يرفض مجرد الاستماع الى هذا الكلام. هناك من يريد بشار الاسد خارج منصبه، وهناك من يريد ان يرى سوريا كلها خارج موقعها الحالي. وهو ما يفتح النقاش بطريقة مختلفة مع قوى المعارضة، سواء تلك الداخلية او الخارجية، علماً أن اي مقاربة اخلاقية تمنع محاججة معارضين داخليين، خصوصاً اولئك الشباب الذين قادوا حراكا مطالباً بالتغيير سياسياً واقتصادياً.

بدا واضحاً، بعد كل هذه الفترة، أن في سوريا من تعب من قيادة التحرك الشعبي. ربما الشارع نفسه تعب. او هو لم يتحمل الاثمان التي دفعت الى الآن، وهذا الشارع اخطأ عندما سلم نفسه الى قيادات سياسية، وحتى الى قوى بدت مستعجلة الحصاد السياسي. منها من بالغ في عدم تقديره لقوة النظام، فاعتقد أن المسألة لن تتجاوز اسابيع مصر، وأنه في حالة اخرى، يمكن اللجوء الى النموذج الليبي. وهو امر، تركز في عدم تبلور قيادة سياسية للحراك الشعبي. بل صارت القيادات اسيرة ما يعلنه المتظاهرون في الشارع يومياً. لم يعد هناك من يميز بين الشعارات التعبوية، وبين الاهداف المرحلية او النهائية لهذا الحراك. الامر الذي ترافق مع استنفار لا سابق له من كل اعداء النظام السوري في الخارج القريب والبعيد.. من الغرب الحامي لاسرائيل، الى عرب الولايات المتحدة، الى القوى السياسية المنضوية في مشروع السلام مع اسرائيل. وتصرف هؤلاء، على أن ما حصل في الشارع من تحرك كاف لطلب النجدة الدولية، وبدل أن تبحث المعارضة عن خطاب عاقل، او عن آلية لاستثمار ما قامت به، وتراعي الحساسيات الطائفية والعرقية والقبائلية والسياسية والاقليمية، من خلال الدفع نحو حوار ولو كان مصحوباً بالتظاهر والعنف مع النظام، ذهبت هذه القوى، ولا سيما الخارجية منها، نحو البحث عن عون خارجي، ولم يكن في عقل كل هؤلاء سوى صورة ليبيا، وصورة التدخل الخارجي. فصار هؤلاء يجرون الاتصالات ويعقدون الاجتماعات من اجل توفير نصاب دولي وإقليمي لحفلة الجنون هذه، بينما هم يتجنبون الحديث عنه مباشرة، بل يعمدون الى استنكاره لعلمهم انه خيار ليس مرغوباً عند الناس او هو، على الأدق، ليس محل اجماع عند الشعب السوري، بل يمكن الجزم بأن غالبية سورية ترفضه.

اكثر من ذلك، عمدت قوى المعارضة الخارجية الى نسخ النموذج الليبي بطريقة مثيرة للاشمئزاز: اختاروا اسم المجلس الوطني، وفي ذهنهم المجلس الليبي. عملوا على دعم عمليات التسلح في الارياف بحجة انها للحماية، لكن في عقلهم نموذج الثوار في شرق ليبيا. سارعوا الى الحديث عن مناطق عازلة، وفي بالهم صورة بنغازي. طلبوا الحماية الدولية، وفي بالهم تفويض دولي لقوى اقليمية او دولية بالتدخل العسكري لتحقيق هذه الحماية. وفي محاكاة لكتائب الثوار، باركوا قيام الجيش الحر، وكانوا، ولا يزالون، مستعدّين لأن يكونوا في «خدمة» اي جيش اجنبي مستعد للدخول في حرب هدفها اسقاط نظام الاسد. ولكون هؤلاء عديمي المسؤولية، حتى الاخلاقية منها، لم يتورعوا عن حث الشعب في سوريا على الدخول في مواجهات دموية مع النظام. كانت الابتسامات تعلو وجوه رموز هذه المعارضة الخارجية وهم يعرضون الارقام الكبيرة لأعداد القتلى والجرحى والمعتقلين من المواطنين السوريين. وهم اتكلوا على أن الضجة الاعلامية تجرف معها كل التفاصيل. فصاروا يحسبون كل من يقتل في سوريا على انه من صفوفهم، وصاروا يعتبرون اي مسلح جندياً منشقّاً.

وهكذا استمر هؤلاء يبحثون عن دعم دول وعواصم، ويتسولون المساعدات المالية من هذه الجهة او تلك، وهم غير مستعدين لبذل جهد في اقناع ابناء المدن السورية الكبرى منها او المتوسطة، او القرى التي لا تشارك في الاحتجاجات، واكتفوا بمخاطبة الخوف الناشئ (بمعزل عن صوابيته) عند الاقليات الطائفية او العرقية بعبارات طنانة في بيانات لا يقرأها سوى محرريها.. بينما تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي حملات التخوين الطائفي والمذهبي والسياسي. وبدل منافسة النظام في موقفه من الصراع مع اسرائيل، سارعوا الى الوعد بقطع العلاقات مع محور المقاومة، وتفضيل خيار المفاوضات على المقاومة لاسترجاع الجولان.

لكن هؤلاء، لم يقيسوا جيداً حجم الانفكاء القائم عن شعاراتهم في الشارع السوري، الذي يغلي رغبة بالتغيير والاصلاح، لكن ليس مع هذا الصنف من المعارضين.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى