أما زالت الجبال صديقة؟/ صبحي حديدي
تقترب، هذه الأيام، الذكرى العاشرة لانتفاضة شرائح واسعة من جماهير الأكراد السوريين، ضدّ النظام؛ في مدينة القامشلي أوّلاً، ثمّ في مدن وبلدات وقرى في محافظة الحسكة، ومناطق أخرى من سوريا تتميز بأغلبية سكانية كردية. والمناسبة هذه لا تمرّ دون تذكير، جليّ وقويّ، بسلسلة المعضلات التي حكمت وتحكم الواقع الكردي في مختلف جوانبه، وفي المنطقة عموماً.
وهكذا، بين 15 مارس (آذار)، تاريخ الانطلاقة الأولى للانتفاضة السورية في دمشق العاصمة؛ و18 آذار، تاريخ انطلاقتها الكبرى، ومحطتها النوعية الفاصلة، في درعا وسائر حوران؛ ثمة نهار 12 آذار، الذي يصادف ذكرى تلك الانتفاضة الكردية. وقبل أن تتهاوى أولى تماثيل حافظ الأسد، هنا وهناك في أرجاء البلاد خلال الأسابيع الأولى من الانتفاضة السورية؛ صعدت صورة نوعية فاصلة بدورها، تعود إلى سنة 2004، لعلّها كانت الأولى في طرازها العلني الجسور، طيلة 34 سنة من نظام “الحركة التصحيحية”: شابّ كردي سوري، يطمس صورة للأسد الأب، مطبوعة على نصب حجري.
قرار سلطات النظام الفوري كان اللجوء إلى الرصاص الحيّ، فتصرّفت وكأنها تجتاح مدينة حماة مجدداً؛ أو تتقصد إعادة إنتاج دروس تلك المجزرة، بغية تلقينها للمواطنين الأكراد هذه المرّة. الثابت عيانياً أنّ المحافظة عموماً، ومدينة القامشلي بصفة خاصة، شهدت تمريناً مبكراً على ما ستقترفه الفرقة الرابعة، بعد سبع سنوات، من أعمال قصف وحصار، في درعا ودوما والمعضمية وحرستا، وفي حماة وحمص ودير الزور وبانياس. كذلك سوف تشهد مرابطة ماهر الأسد، القائد الفعلي للفرقة، في الموقع ذاته الذي يذكّر بمرابطة أمثال رفعت الأسد وعلي حيدر وشفيق فياض، في تدمر وحماة وحلب، مطلع ثمانينيات القرن الماضي!
لكنّ هذه الذكرى العاشرة لا تحلّ اليوم والأكراد في حال أفضل، ليس في سوريا وحدها (حيث تتناهب المواطن الكردي صراعات حزبية كردية ـ كردية، وممارسات القوى الإسلامية المسلحة المتشددة تستكمل تكتيكات النظام في اختراق الصفّ الكردي)؛ بل في العراق أيضاً (بين مطرقة السلطة المركزية في بغداد، وسندان الفساد الذي يعصف بالحكم الذاتي في أربيل)؛ فضلاً عن تركيا (تعثر الاتفاق مع “حزب العمال الكردستاني”، وانقسام الشارع الشعبي الكردي)؛ وإيران، غنيّ عن القول، حيث تدير طهران لعبة مناورات مفتوحة على جبهات الأكراد كافة…
المشهد الراهن يعيد التذكير بحقيقة كبرى ظلت مركزية على الدوام: أنّ تاريخ الأكراد يقوم على سرديتين متكرّرتين، متكاملتين على نحو جدلي، رغم تناقضهما في الشكل والمحتوى. من جانب أوّل، ثمة موجات متعاقبة من الاضطهاد الإثني والسياسي والثقافي، على يد أمم صغرى وأمم كبرى، إقليمية وكونية؛ وهنالك، من جانب ثانٍ، وقائع سردية الخيانة ذات الطابع المزدوج، على يد الحلفاء أو الأصدقاء، وبأفعال قيادات سياسية كردية على مرّ تاريخ الأكراد، الحديث منه خصوصاً.
ومن واجب المتفق مع هذا الرأي أن يتذكّر أنّ أولى الخيانات الكبرى وقعت سنة 1918 حين نصّت مبادىء الرئيس الأمريكي وودرو ولسون على حقّ تقرير المصير لكلّ الأقليات غير التركية في ظلّ الدولة العثمانية؛ ثم حين أقرّت اتفاقية سيفر لعام 1920 على إقامة دولة كردية، لكي تأتي اتفاقية لوزان، بعد ثلاثة أعوام فقط، فتوزّع المناطق التي يعيش فيها الأكراد على تركيا وإيران والعراق وسورية والاتحاد السوفييتي. وللمراقب ذاته أن يحتسب أحدث الخيانات، أي تلك التي جاءت من رئيس أمريكي أيضاً، هو جورج بوش الأب، حثّ الأكراد على التمرّد ضدّ نظام صدّام حسين؛ ثمّ تخلى عنهم، وتركهم فريسة لقاذفات الدكتاتور ومدفعيته الثقيلة.
واليوم، في المناطق ذاتها االتي شهدت انتفاضة الأكراد السوريين، ترتكب قيادات كردية الحماقات القديمة ذاتها، في عقد تحالفات خرقاء مع قوى محلية أو إقليمية سبق لها أن خانت القضية الكردية أو شاركت في اضطهاد الأكراد ومارست بحقهم مختلف أنماط التمييز والقهر. وكما يحدث في كلّ مرّة، تسفر هذه الخيارات عن عواقب وخيمة بحقّ الجماهير الكردية في المقام الأوّل، فيهيم الأكراد على وجوههم في العراء المفتوح، ولسان حالهم يردد من جديد تلك الحكمة العتيقة التي حفظوها عن أجدادهم: لا صديق للكرديّ إلا الجبال.
بافتراض أنها ما تزال صديقة!