أمجد ناصر: الحياة هي التي تصرخ «هُنا الوردة»
عمر شبانة
الكتابة كما الكاتب، هي الأسلوب، وسواء كتبَ شعرًا أم نثرًا، مقالة أم رواية، فإنّ كتابته تجسّد هذا الجانب من شخصيته. وهذا ما تمثّله كتابات أمجد ناصر، الشاعر والناثر والروائي مؤخّرًا، أي مع رواياته الثلاث عموماً، «حيث لا تسقط الأمطار» والثانية «خذ هذا الخاتم»، وفي روايته الجديدة «هنا الوردة» تحديدًا. فهي بقدر ما تنطوي عليه من لغة شعرية عالية، تمتلك أساليب السرد الحديثة التي تُعنى ببناء الشخصيّة وما تحمله من «رسائل». هنا حوار مع الشاعر والروائي أمجد ناصر عن هذا «الصنيع» الإبداعيّ كلّه.
> بداية، دعنا نقف على عنوان الرواية. ماذا أردت أن تقول باختيارك إياه؟
– عنوان الرواية الحاليّ واحد من عناوين عديدة اقترحتها عليّ دار الآداب، فاختارت هذا العنوان، وجدته جذاباً أكثر من سواه. هناك ما يحيل إلى العنوان في الرواية، وهي عبارة ماركس الحرفية: هنا الوردة فلنرقص هنا، التي يضعها في سياق صرخة الحياة بأنْ «لا عودة إلى الماضي»، وهي من كتابه الشهير «الثامن عشر من بروميير»… وجدت في هذه المقولة شيئاً شعريّاً وحُلميّاً في آن: فالحياة هي نفسها التي تصرخ، أمام الوضع الذي يخرج، أو يتخلَّق من رحم المراوحة والتكرار قائلة: هنا الوردة.
> روايتك «هنا الوردة»، على رغم أنها تذهب أبعد من شخصية يونس التي هي محورها، هي «رواية شخصيات» أو بطل مركزي واحد، وأبطال ثانويين، لذا نتوقف – بداية – مع الشخصية الرئيسة، يونس الخطّاط، بكل ما هي عليه من مكوّنات مركّبة حد التعقيد، وصولاً إلى ما يمكن اعتباره «انفصاماً» في نهاية الرواية، حين يتراءى لنا شخص يولد من يونس، ويعود مع خاله أدهم إلى «الحامية»، ما الذي يعنيه مصير يونس هذا؟
– تمكن قراءة «هنا الوردة» وحدها، وتمكن قراءتها بالارتباط برواية «حيث لا تسقط الأمطار». شخصية يونس الخطاط هي نفسها في العملين. لقد قمت بعمل أحمق بكل معنى الكلمة. كانت لدي مادة الرواية منذ فترة طويلة، قبل أن أنشر العمل الروائي الأول، وكنت أفكر في كتابة ثلاثية روائية ذات امتداد زمني عريض، فحصل أنني نشرت الجزء الأخير من الثلاثية، أو ما يشبه ذلك، قبل الجزء الأول. الثلاثية، التي بدأت تتضح ملامحها الآن بنشر «هنا الوردة» تبدأ من حيث تنتهي تقريباً. وبما أنني لست من الذين يضعون مخططاً لكتابة الرواية، بل أترك الملامح العامة، أو الومضات التي في ذهني، تتبلور وتتخذ المنحى الذي يأخذها إليه السرد والتطور الخاص بالشخصيات. من قرأ «حيث لا تسقط الأمطار» يعرف الفصام الذي يحدث ليونس الخطاط، ثم لا يستغرب أن يحدث هذا له. هناك حبكة تقوم عليها الرواية الجديدة لا أريد إفسادها هنا… أتركها للقارىء.
> ولكن لمن لم يقرأ «حيث لا تسقط الأمطار» ماذا يعني هذا الفصام؟
– يعني وجود نوع من الفصام في كل شخص… كأن هذا جزء لا يتجزأ من الكائن البشري الذي يجمع في ذاته ذواتاً أخرى. لا أظن أن الأسد أو الحصان، أو النسر يظن نفسه غير ما هو عليه، بينما الإنسان قادر على أن يكون ذاته وغيره في الوقت نفسه… سواء ذاته المتحققة أو تلك المقموعة داخله… وليس هذا بالضرورة مرضاً… بل لعله في أصل تكويننا.
> اختيار شخصية الشاعر تحتمل أسئلة كثيرة، لماذا الشاعر؟ ما الأبعاد التي أردت تحميلها لهذه الشخصية؟
– لأن عالم الشعر والشعراء هو أقوى خبراتي على ما أظن، والأكثر التصاقاً بي. ولا أظن أني قادر على التعبير عن حقل آخر، وعن مشتغلين في حقول أخرى، مثل قدرتي على التعبير عن هذا العالم المخصوص. وبما أني لا أعرف كيف تُكتب ما يمكن تسميتها «الرواية الحياتية»، التي تنهل من حياة الشارع اليومي، التي لم أعشها مذ كنت في الأردن، فليس أمامي سوى ما أعرفه: الشعر، بل الحياة الثقافية عموماً، وليست حياة الشعراء فقط. ولكن باعتبار كل ذلك خبرة إنسانية ووجودية، وليس لاستقصاء مواقف وطرح قضايا تخص الشعر كحقل فنيّ محدد. أنت حرّ في أن تستقصي رأيي، وربما رأي جيلي، في أمور تخصّ الشعر وما تصطرع في ساحته من قضايا، ولكن ليست الرواية هي المكان المناسب لمعرفة رأيي في الشعر، بل معرفة رأي شخصيات الرواية والتأمل في قضايا قد يطرحها الشعر، ولكنه البتة ليس نقاشاً في الساحة الشعرية وهمومها.
> هل يعني هذا أنك ضدّ ما تسمّيه «الرواية الحياتية»؟
– لست ضدّها، ولكني لا أعرف كيف أفعل ذلك، وربما لا أهتم بفعله. لا يغريني الوصف الواقعي، ولا خلق حيوات موازية تماماً للواقع، أو مأخوذة منه. المهم بالنسبة إلي ما الذي تودّ هذه الحيوات فعله، وما الذي يتعيّن على الشخصية أن تنهض به. يذكّرني الحديث عن الواقع والبحث عن مطابقات بين الرواية والواقع، بين شخصيات الرواية ومن يشبهها، بل من يحتمل أن تكون من عالم الأسماء التي يعرفها الكاتب وعاش معها، بما قاله كونديرا عندما راح يبحث عمّن تكون المدينة في رواية لكاتب تشيكي، أظنّه موزيل، فعرف من بعض التفاصيل أنها مدينته هو بالذات، ثم انتبه أنه يتعامل مع الرواية عكس ما أراده موزيل الذي كان قادراً على التسمية ووصف الواقع، ولكنه لم يرد فعل ذلك لأسباب جمالية بحت، بل لكي لا يحرف اهتمام القراء عن عدسته التي تُري واقعاً وجودياً أكثر من كونه واقعاً متعيناً بجغرافيا وزمن معينين.
> لمن يعرف تجربتك الشعرية، وبيئتك التي نشأت فيها وترعرعت، وسيرتك الأدبية والحياتية، يبدو أن يونس يحمل شيئاً من ملامحك، سواء في الجانب الشخصيّ – السِّيْريّ (السيرة الشخصية)، أو في مواقفك تجاه الإبداع، وربّما في «الموقف السياسيّ» الذي يعبّر عنه يونس حيال «العمل السياسيّ – النضاليّ»، كيف ترى إلى هذه القراءة للعلاقة بينكما؟ وإلى أيّ حدّ يمكن الحديث عن وجود ظلال «سيرة المؤلف» في روايته؟
– طبعاً يمكن الحديث عن ظلال سيرة، وهيكل سيرة، وخبرات شخصية، وعلامات تحيل إليّ ويعرفها القريبون منّي شخصياً، ولكني لم أكن في صدد كتابة سيرة، بل رواية بقدر ما أفهم كيف تكتب الرواية، وبقدر ما تستطيع أدواتي. لكتابة السيرة، حتى وإن كانت فنية، غرض غير كتابة الرواية. هذان هدفان مختلفان حتى وإن بدوَا أنهما يرتديان الحلة ذاتها. ويبدو ان سؤال السيرة وسؤال الرواية لا يطرحان إلا في العالم العربي، مثلما لم يكن يطرح سؤال قصيدة النثر إلا عندنا. الأشكال الأدبية تجاوزت الترسيمات الأكاديمية منذ زمن طويل، ربما منذ اعتبر سِفر مارسيل بروست الضخم «البحث عن الزمن الضائع»، السيريّ بالكامل، عملاً روائياً بالكامل، لا يطرح معه سؤال السيرة الذاتية بوصفه انتقاصاً من تخيليّة الراوية، والبحث عن تصنيف لها في رفوف المكتبات. السيرة الذاتية، في أبسط تصوّر لها، وفي أبسط مفهوم لها، أنها تجعل الكاتب محوراً لها باعتباره فلاناً أو فلاناً… أي باعتباره شخصاً متعيناً في الواقع ويعرفه مليون أو عشرة أشخاص. وليس هذا غرض الرواية حتى وإن كانت تتوسل خطوط السيرة الشخصية والخبرات الخاصة بالكاتب نفسه. الذات هنا ليست مقصودة لذاتها ولا هي نهاية شوط القراءة، مهما كانت مكتوبة بفنية رفيعة. إذا عرفنا هذا الأمر، وفهمناه، نكفُّ حينها عن الحديث المرسل عن سيرة الكاتب في عمله، كم هي قريبة أو بعيدة.
> نظل في شخصية يونس، وهذا الاهتمام بشخصية «دونكيخوتة» أو «الفارس الحزين الطلعة»، بوصفه شخصية «ظلّ» في الرواية، يحيل إلى ملمح من ملامح يونس، وربّما غيره من شخوص الرواية، هل نحن أمام شخصيات، أولها يونس نفسه، تحارب طواحين الهواء؟
– إذا اعتبرنا «هنا الوردة»، مثل «حيث لا تسقط الأمطار»، رواية لجيل، بقدر ما هي رواية أفراد، يصحُّ القول إن هذه الشخصيات عاشت في «الزمن الدونكيشوتيّ»، ولكن ليس كمسخرة من هذا الزمن، ولا كاريكاتيراً له، وإن كانت هناك مسخرة كتيمة فعلاً، ولكن بما كانت تستقيه من أحداث وواقع زمانها وتصعدها إلى مرتبة الحلم. كأنَّ الواقع، بهذا المعنى، كان حلم يقظة. وفي أحلام اليقظة بمقدروك أن تكون ما تشاء، أن تكون دون كيشوت، وأنا تكون تابعه سانشو الذي يردّه من التهيؤات إلى الواقع، ولكن من دون أن يدركه. في أحلام اليقظة، التي قد تكون مرحلة زمنية، يمكن للمرحلة أن تلمّ العالم بعضه إلى بعض، كما تلم أطراف منديل. هذه آلية فعالة ولعلها خصيصة إنسانية. لا أحاكم زمناً ولا أشخاصاً في هذا الزمن، ليس هذا غرضي، بل أردت أن أضع خبرة واقعية تشبه الفنتازيا على محكّ القراءة والتأمل، وربما الاستمتاع بقدر ما يسمح به الشكل الذي لم يكن تقليدياً ولا حكائياً صرفاً، وإن كان ينطوي على حبكة داخلية.
> يبدو لي أن «هنا الوردة» تجمع بُعدين أساسيين، متداخلين حدّ التلاحم، البُعد التاريخيّ/ الثقافيّ والحضاريّ، والبُعد السياسيّ/ الفكريّ والنضاليّ، ما يجعلها رواية «نضاليّة»، أو من «الأدب السياسيّ»، من دون التخلّي عن «الجماليّات» في فنّ الرواية، وربما يجعل منها رواية «نخبويّة» أيضاً، وهو ما يطرح السؤال حول العلاقة مع المتلقّي، أولاً؟
– كل هذا ممكن بالطبع. فهي ابنة زمن، وما دامت كذلك فهي ليست عابرة لحوادث هذا الزمن، سواء كانت سياسية أو اجتماعية أو ثقافية، بيد أنها ليست نتاجاً مباشراً لزمن، بمعنى إحالتها، كليّاً، إليه، وإلا وقعت في التاريخ المعطى. الزمن في «هنا الوردة»، على عكس «حيث لا تسقط الأمطار»، يبدو ماضياً، وفيه إشارات تتعلق بنوع الثياب وربما الأغاني والموسيقى، وقضايا تخصّ الحريات وصراع الدينيّ والمدنيّ، وإن لم يظهر كما ظهر في الرواية السابقة. هي قد تحيل إلى زمن بعينه، لكن لو كانت فقط كذلك لأصبحت مجرد سيرة ذاتية لشخص ما، سواء لعب دوراً مهماً في زمنه أم كان غفلاً. وهذا، مرة أخرى، ليس قصدي. ومع ذلك يمكن لمن يريد أن يفكر بفترة ونضالها، وطرق تعبير أناس تلك الفترة عن أنفسهم، أن يفعلوا، مع تذكّر أننا لا زلنا نقرأ دون كيشوته ونقع على ما نريده، في أنفسنا من الكتابة الراوائية، من دون أن نفكر بأن هذا زمن بعيد انقضى، بل هو زمن مضحك بكل ما فيه ويخترقه من أمور يستحيل أن تحدث في الزمن الحالي الذي نقرأ فيه الرواية.
> ماذا عن التلقي، ألا تخشى أن رواية كهذه ذات طابع نخبويّ؟
-لا أعرف ما هي الرواية المعاكسة للرواية النخبوية، ولا الشعر المعاكس لما يسمى الشعر النخبوي، ولا في الواقع في أيّ فنّ. ماذا يمكن أن تفعله الرواية كي لا تكون نخبوية؟ هل في جعلها حكائية بالكامل، قائمة على بداية ووسط ونهاية وتتخللها عقدة يجري حلّها، وربما تنتهي نهاية سعيدة؟ أم هل هي الرواية التي تصور واقعاً اجتماعياً يطابق فيه القارىء بين الصورة، أي الكتابة، والواقع الذي نهلت منه الرواية؟ أنا لا أستطيع اليوم، ولا قبل عقدين أو ثلاثة، قراءة روايات نجيب محفوظ الواقعية، التي كانت موضع إشادة نقدية في حينها، باعتبارها تنقل الرواية من الرومنطيقيات العاطفية والريفية إلى الواقع، بل إلى واقع المدينة التي تصطرع فيها قيم متعارضة. ومع ذلك لم يكن نجيب محفوظ، بكل واقعيته هذه، الأكثر انتشاراً وتأثيراً في القراءة. بل أظن أن روائياً، بعيداً عن الواقع، مثل إحسان عبد القدوس كان أكثر مقروئية منه.
> بخصوص المكان في روايتك، ثمّة مكانان أساسيّان، ومكان ثالث هامشي لا نراه: الحامية، ومدينة السندباد، والثالث هو المدينة التي تطل على البحر، وعلى رغم وضوح الكثير من ملامح كل مكان منها، إلا أنك قمت بإضافة ملامح تعمل على «تغريب» المكان. ما الذي يعنيه غياب الاسم الحقيقيّ للمكان، هل هذا يعني أنك تريد الابتعاد عن «تجربة» بلد محدد، سياسيّاً واجتماعياً، سلطوياً ونضاليّاً، في اتجاه تجربة روائية تصلح للتعبير عن «كل زمان ومكان»؟
– قد يكون السبب هو في الابتعاد عن الوصف الجغرافيّ، والاكتفاء بالخطوط العريضة للمكان والعالم الذي ينتمي إليه، وهذا يعني أنها ليست رواية مكان، ولا جدوى من البحث عن مطابقات بين جغرافية الرواية وجغرافية الواقع. ثمّة من ظنّ تعمية المكان وعدم تسميته فعلياً، أو إيجاد تسميات أخرى لها قد تكون شعرية، هروباً من استحقاقات سياسية وأمنية، أو ما شابه ذلك. وهذا غير صحيح ولم يخطر في بالي، لأن لا محظورات في الرواية، والزمن الذي يرجعه البعض إليه، جرت الكتابة عنه، سواء في بلادي الأردن، أو في بلدان عربية مجاورة، أو حتى بعيدة مثل المغرب الذي صار فيه تراكم روائي لما يسمّيه المغاربة «سنوات الرصاص». لا قيمة أدبية وجمالية، وربما لا فائدة نضالية، من وراء الكتابة عمّا هو مسموح الكتابة عنه الآن، ولا يتحلى ذلك بصفة الشجاعة التي كانت تلصق به في وقت سابق.
> مع الكثير من اللغة الشعرية في الرواية، هل لنا أن نقول إنها رواية سردية بالشعر؟ شكل جديد من الرواية؟
– هذه هي، تقريباً، لغتي التي أكتب بها المقالة، وإلى حد ما، قصائدي النثرية التي سميتها قصائد الكتلة. لا أعرف لغة غير هذه اللغة لأكتب بها الرواية. ولست، على كل حال، من الذين يؤمنون بما يسمى نثر الحياة اليومية، فما دمتُ لست بصدد حياة يومية، ولا تهدف حياة الرواية إلى الإقناع بهذا، فلا ضرر أن تكتب باللغة التي يعرفها الكاتب ولا يصطنعها اصطناعاً. هناك من يعمد إلى العامية في الحوارات لكي يقرّب عمله من الواقع، وهذا لا يعجبني كمنهج وطريقة، قد تأتي تعابير وكلمات من العامية في الحوار، أو حتى في المتن، ولكنها ليست مقصودة لذاتها، أو ليست مقصودة لكي تحدث إقناعاً عند القارىء بأن ما يقرأه رواية واقعية، وبلغة يحكيها أشخاص الواقع… يذهب البعض إلى اصطناع نكات واللعب على كلمات وأمثلة لكي يحدث فكاهة، أو يقرِّب كتابته من قارىء يظن أنه يريد هذه البضاعة، وهذا شيء كاريكاتوري… أو «كيتش» مبتذل. الرواية، مثل القصيدة، عمل فنيّ، في اللغة والبناء والدراما، إن كان هناك ما يتطب الدراما، والتوتر، وليس الانفلاش والثرثرة والإسهاب والاستماتة في محاكاة الواقع.
الحياة