أمنية لاحتواء الانهيار
حازم صاغية
لنتذكّر تداعي الاتّحاد السوفياتيّ، أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، وكيف استجرّ تلقائيّاً تداعي أنظمة الكتلة السوفياتيّة واحداً بعد الآخر.
يمكن، على نطاق مصغّر طبعاً، قول الشيء نفسه في ما خصّ التداعي الراهن للنظام السوريّ، والذي جاءت الاستجابة الإقليميّة الأولى له من غزّة في تحوّل حركة «حماس» عن سابق سياستها، فيما تصدر اليوم عن طرابلس وعكّار في الشمال اللبنانيّ الاستجابة الثانية.
ذاك أنّ الواقع الذي رُكّب كامتداد لتلك المنظومة الأمنيّة ينهار تباعاً: يصحّ هذا في تركيبة الأجهزة الأمنيّة ووظيفيّتها، وفي الدور الذي أوكل لعبه إلى الحياة السياسيّة وواجهتها البرلمانيّة، وإلى القضاء الذي تمّ تكييفه، ناهيك عن موقع الاستثناء والفرادة الذي يحظى به حزب الله.
صحيح أنّ لبنان، بسبب من تكوينه الطائفيّ، لا يسقط سقوطاً واحداً يمهّد لنظام سياسيّ بديل، على النحو الذي رأيناه في معظم بلدان «الكتلة الاشتراكيّة» السابقة. لكنّ يوغوسلافيا، المتعدّدة الأديان والإثنيّات، ربّما قدّمت لنا المثل الأقرب من حيث اصطباغ التحوّل السياسيّ بالنزاع الأهليّ المفتوح.
غنيّ عن القول إنّ هذه النماذج على اختلافها ما كانت لتسقط وتتغيّر لو أنّ الأمر اقتصر على ارتباطها بالنظام السوفياتيّ الكبير والمتهاوي. فهناك، فضلاً عن ذلك، حجم التناقضات الداخليّة التي تعصف بالبلدان المذكورة، والتي وجدت في تصدّع موسكو فرصة لتفجّرها.
وبالمعنى هذا يصحّ القول إنّ تغلّب لبنان على تناقضاته الداخليّة، أو احتواءه لها على الأقلّ، كفيلان بتجنيبه الكأس المرّة التي تقترب من شفتيه. ويدرك المرء أنّ التصوّر هذا لا يعدو كونه أمنية ساذجة، أخذاً لواقع الطوائف وأنانيّاتها وصغائرها في الاعتبار، وما يترتّب على ذلك من طبقة سياسيّة تافهة. لكنّ ذلك لا يلغي التذكير بذلك التصوّر الرغبويّ مرّة ومرّتين وألفاً لأنّنا، ببساطة، لا نملك إلاّ الأمنيات وسيلة لتجنّب ما نحن مقبلون عليه.
واحتواء التناقضات لا يتمّ إلاّ بالعودة إلى بديهيّات التكوين اللبنانيّ التي هي شروط السلم الأهليّ في لبنان:
فأوّلاً، لا يمكن لتسلّح أيٍّ من الجماعات اللبنانيّة إلاّ أن يمهّد لتسلّح الجماعات الأخرى ويبرّره.
وثانياً، لا يجوز، كما في سائر بقاع الأرض السويّة، أن تتقاسم الدولة سلاحها وأمن مجتمعها مع طرف أهليّ بعينه.
وثالثاً، لا يعيش مجتمع متعدّد على القضايا الإيديولوجيّة الخلافيّة، حتّى لو كانت صادقة… وهي عندنا غير ذلك. والمطلوب، إذا ما أريد لهذا البلد أن يعيش، وأن نعيش فيه، هو التخفّف من تلك القضايا، بدل تكثيرها وإسباغ القداسة عليها.
ورابعاً، لا يستطيع لبنان، تبعاً لتركيبه، أن ينجرف في صراعات خارج حدوده، صراعاتٍ هي موضع تنازع وخلاف بين اللبنانيّين أنفسهم.
أمّا الذين سكروا ويسكرون بوهم القوّة فلا يريدون أن يروا الضعف الداخليّ العميق الذي تقيم عليه كلّ قوّة مزعومة، والذي سريعاً ما يتجسّد نزاعاً أهليّاً مفتوحاً يؤكّد لنا فعلاً، وبلا اعتداد فارغ، أنّ قوّة لبنان الوحيدة كامنة في ضعفه: هذا إذا أقررنا بهذا الضعف وحاولنا، متواضعين، أن نتّفق على تحويله قوّةً لنا كلّنا.
الحياة