أمومة معولمة في زمن “فوضى الحب”/ علياء تركي الربيعو
ماذا لو لم يعد هناك بيت مشترك أو سقف جماعي واحد، ولم تعد هناك أوقات متاحة يتجمع خلالها أفراد الأسرة بعضهم مع بعض، أو حتى لو وجدت مثل تلك الأوقات، فقد أصبحت تتصف بالندرة؟ هل يمكننا حينها أن نتحدث عن وجود الأسرة، أم الحديث في هذه الحالة هباء في هباء؟ وماذا لو لم يعد هناك بيت أسري جامع، وإنما نشأت العديد من الأنظمة الأسرية في العديد من الدول؟ وماذا لو انتمى إلى الأسرة أفراد مختلفو الجنسيات ومن قارات مختلفة؟ وماذا لو أن الدعائم المتمثلة في السقف والمكان والنظام الأسري والجنسية لم تعد تشكل فرضيات أساسية في أي أسرة، هل ستكون تسمية “الأسرة” مناسبة لهذا النظام الجديد؟ ما معنى الوطن الأسري والأصل الأسري في ظل هذه القيود؟ وكيف يكون نقيض ذلك المتمثل في مفهوم الهوية المعولمة؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها أولريش بك وإليزابيت بك-غرنزهايم في كتاب “الحب عن بُعد: أنماط حياتية في عصر العولمة”، ترجمة حسام الدين بدر (منشورات الجمل).
يبدأ المؤلفان بتعريف الأسرة المعولمة وهي أسرة تعيش بعضها مع بعض متجاوزة كل الفوارق القومية والدينية والثقافية والعرقية. يتطرق الكتاب إلى فوضى الحب في العالم وذلك بعرض كل صور “الحب النائي”، على سبيل المثال، صورة الأخلاء من دولتين مختلفتين، والمهاجرين بغية الزواج والعمل، وتأجير الأرحام، والعديد من علاقات الحب التراجيدية التي لعب فيها السكايب دوراً فاعلاً.
يقدم الكتاب تحليلاً نفسياً لما يسمى الأسرة المعولمة، وكيف أن حياة الانعزال التي تخالجها النزعة الرومانسية للحب المطلق قد طغت على الأنماط التقليدية للحياة الجماعية، حيث حل محل النموذج الأسري القديم للأب والأم والأبناء العديد من الصور الحديثة للحياة الجماعية، وظهر بازدياد “الخليل المؤقت” عوضاً عن الزوج، كما ظهرت الأسر المختلطة نتيجة لتعدد الزواج والطلاق. كذلك يلقي الضوء على علاقة الحب التي تتجاوز الحدود الجغرافية والثقافية والسياسية والهجرة بغية الزواج وحب الأم النائي، والسياحة التي تتعلق بالرغبة في الحصول على الأطفال (السياحة الإنجابية)، والعائلات المتنوعة المعولمة.
زرع القلب المعولم
بيد أن المثير للجدل، هو الفصل التي يتناوله الكتاب عن إعادة تعريف الأمومة في عصر العولمة والذي جاء بعنوان “حنان الأم وأحاسيس أخرى”، إذ يتساءل المؤلفان، من هي الأم التي يمكنها أن تمنح الحب ولأي طفل؟ من ينبغي عليه أن يحب من الأمهات ومن يسمح له؟ أي الأمهات يحببن أولادهن أكثر وأيهن أقل؟ أي الأمهات يحببن الطفل الذي ليس من أترابهن وأي الأمهات قد نسين الشعور بالأمومة؟
في نهاية القرن العشرين، عندما صارت النساء مؤهلات على المستوى العلمي وحصلن على شهادات في مجال التعليم، ثم أصبحن قادرات على العمل، عزفن عن أعمال المنزل والأسرة، وطرأ تحول في علاقة الرجل بالمرأة وعلاقة الأم بطفلها، فلم تعد المرأة العصرية مكلفة بأعمال المنزل وإنما أصبح متوقعاً منها العمل خارجه. وعلى هذا، استقطع من يومها أجزاء، ووجدت نفسها بأنه ينبغي عليها أن تستغل ما تبقى من يومها أحسن استغلال لصالح وليدها، فوقتها مع طفلها قصر، وبالتالي عليها منحه مشاعر الحنان في وقت ضيق.
لذلك تستعين النساء بأم مهاجرة تساعدها في هذه المهمة، إلا أن الأم المهاجرة أو البديلة تتوجس خيفة من أن تخفق في القيام بوظيفتها كأم بديلة للطفل الذي كُلفت برعايته، حتى لا تخسر المكافآت التي تحصل عليها. وفي الوقت نفسه تخشى هذه الأم المهاجرة أن يكون إخلاصها في عملها سبباً في أن ينسى الطفل أمه الحقيقية ويتوجه إليها دوماً بمشاعره، فتنشأ علاقة داخلية قوية بينه وبين حاضنته، مثل هذه المشاعر المتضاربة تشعر بها أيضاً الأمهات اللاتي يأتين بالمربيات بأنفسهن. وللحد من غضب وغيرة الآباء والأمهات، فإن المربية تجد لزاماً عليها أن توازن يومياً بين مشاعرها وعملها. كذلك يصبح الطفل الذي ترعاه وتمنحه جزءاً كبيراً من حياتها، أحد أصدقائها القلائل في البلد الغريب، فتسعد هذه الأم بمرافقة هذا الطفل والضحك معه واحتضانه. إلا أنه ومع كل ضحكة ولمسة، يهيج شوقها إلى ابنها الحقيقي البعيد عنها، فتُغدق بمشاعر الأمومة على الطفل الغريب وكأنها تعبر بها لتمنحها لطفلها الذي من رحمها. وهذا ما يسميه المؤلفان بـ “عملية زرع القلب المعولم”، فالأمومة التي لا تقدر بثمن تم تحريكها ونقلها من أبناء المناطق الفقيرة إلى أبناء الدول الغنية.
تعتبر المهاجرات الأمومة المثالية التقليدية هي تحمل الواجبات دون انقطاع، وفي الوقت نفسه لا حيلة لديهن إلا التخلي عن مفهوم الأمومة المتمثلة في وجودهن في مكان واحد مع أطفالهن (أمومة المكان) لأسباب اقتصادية. وبالتالي، فإن انفصالهن عن أطفالهن ضرورة فرضتها عليهن الظروف على عكس ما يمكن أن تعتقده الأم صاحبة العمل، بأنهن يرغبن في العمل لإثبات الذات وتحقيق طموح خاص، وهذا يعني أن هؤلاء النسوة يهاجرن عن بلدهن ويتركن أطفالهن بأيدي غيرهن فقط بدافع الأنانية البحتة، أو لسد أوقات الفراغ، وفي هذا جفاء وإجحاف من أم مرفهة (صاحبة العمل) ضد أم يتم استئجارها للعمل لدى المرفهات. تقول إحدى المهاجرات من المكسيك إلى الولايات المتحدة: “إني أحب أطفالي، أما هي (صاحب العمل) فلا، إنهن يذهبن إلى بيوت تصفيف الشعر، يذهبن لتقصير أظافرهن وتسويتها، للتسوق وغير ذلك. وحينما يتواجدن في المنزل طوال اليوم، فإنهن لا يشغلن أنفسهن بالأطفال، لأنهن يدفعن المال لامرأة أخرى ترعى شؤون الطفل”.
السياحة الإنجابية أو الأم الرحم
الأمر ذاته ينطبق على مفهوم السياحة الإنجابية، والتي أتاحت لأولئك الآباء والأمهات الفرصة لتخطي حواجز بلادهم لتحقيق ما يرمون إليه وهو الإنجاب.
على سبيل المثال، تعتبر الهند من أكثر الدول ذات التمايز الطبقي بين الأغنياء والفقراء، لذلك فإن العديد من النساء وبخاصة الأميات والريفيات اللاتي لا يجدن من يعيلهن، على استعداد لتقديم أجسادهن لخدمة المؤسسات العلاجية الخاصة بعملية التخصيب. ووفقاً لتقارير مؤسسات متخصصة، فإن هناك ما يقارب 350 مشفى في الهند توفر “الأم البديلة” أو “الأم الرحم” فالهند تجيز الأمر من منطلق دعمها للاقتصاد وتعتبره نشاطاً من أنشطة شركات السياحة العلاجية. كما أن هذه الخدمات تراوح نفقاتها في الهند بين 12000 و20000 دولار بدلاً من أسعار خيالية تصل إلى مئة ألف دولار فيما لو تم الأمر في بلدان أخرى، يكون نصيب الأم الهندية من ذلك 5000 إلى 7000 دولار وهو أكثر مما تتقاضاه النساء في الهند لعدة سنوات. ومن أجل ذلك يخضعن لبرامج تغذية صارمة، تنص عليه العقود التي تبرمها معهن المؤسسات العلاجية المتخصصة، فأثناء الحمل عليهن أن يعشن في بيوتهن، ويجب عليهن الالتزام ببرنامج غذائي محدد، وأن يبتعدن عن الاتصال الجنسي بأزواجهن، وأن يتركن أطفالهن الأصليين تحت رعاية شخص آخر، وغالباً ما توفر لهم المستشفيات أماكن إقامة أثناء فترة الحمل.
وهذا الأمر يطرح تساؤلات جديدة، هل يمكن أن تكون الأمومة أمراً قابلاً للتوزيع؟ هل الأمومة سلعة تباع وتشترى ويمكننا أن نطلق عليها الأمومة المؤجرة؟ ما هي المشاعر المتوقعة جراء ذلك؟ وما هو الترابط الأسري المنتظر وممن ينبغي انتظاره؟ وأي نوع من المشاعر يكون التعامل معها بمثابة مخاطر تضر بالسوق العالمية فالسلعة هنا الإنجاب؟ وكيف يمكن للحب أن يتشكل في ظل سياقات السوق العالمية ومفهوم المساواة العالمية بين الآباء المتعددي الهوية والطفل؟
في الختام، يشدد الكتاب على أن نمطاً جديداً من صلات القرابة ينشأ من خلال الأم الرحم أو حتى في حالة زرع القلب المعولم، وهي صلات تتجسد معناها الدقيق في حالات الترابط التي تتصف بالتعددية على مستوى القومية والجنسية والعرق، وتؤسس لما سماه المؤلفان بـ “فوضى الحب”.
ضفة ثالثة