صفحات الرأي

أميركا تقوم على محيطات من النفط

هيفاء زعيتر

لعقود طويلة، كذّبت الحروب الأميركية المتنقلة حول العالم نظرية صموئيل هنتنغتون حول صراع الحضارات. في كل مرة، تبيّن أن البحث عن الموارد يصبّ في جوهر أغلبيّة النزاعات المعاصرة، وليس الصدام الناتج عن اختلاف الثقافات والهويات، وقد كان النفط دائماً في مقدمة هذه الموارد.

هكذا، رُسمت السياسة الأميركية وفق خط لا يحيد عن حاجتها إلى النفط، الموجود بشكل أساسي في العالم العربي، وصولاً إلى أن أصبح أمن الخليج جزءاً لا يتجزأ من السياسة العسكرية والدفاعية لواشنطن.

لا جديد حتى الآن في ما تقدّم، لكن ما سيأتي لاحقاً هو ما سيعيد رسم المشهد الدولي، بعيداً عن الشرق الأوسط المندلع. أميركا تخلّصت من رعبها من توقف إمدادات النفط العربي. لقد وجدت الثروة في عقر دارها. ولسخرية القدر، سيأتي يوم تنافس فيه أميركا السعودية في الإنتاج النفطي، وصولاً إلى الإطاحة بأي منافس خليجي، لا سيما أن جميع الدراسات تقرّ بتوجه الثروة النفطية في الخليج إلى النضوب، بين ما يتعرّض للسرقة وما يتم هدره في غياب سياسات ترشيد الاستهلاك.

الاكتشاف الأميركي كان مفاجئاً، وإن كان متوقعاً، لأن العلماء الأميركيين أشاروا مراراً إلى ثروات نفطية غير مستغلة في خليج المكسيك وقبالة شواطئ أميركا وفي الغرب الأميركي وفي ألاسكا. لم يكونوا يتوقعون احتياطيات بهذا الحجم، أو أن تكون موجودة في أماكن لم تكن في الحسبان مثل بنسلفانيا وأوهايو ونيويورك. وبحسب الدراسات، قد تصل الاحتياطيات النفطية إلى 3 تريليون برميل غير مستغلّ، وهو رقم يفوق احتياطي النفط الخام في العالم أجمع.

أسئلة كثيرة قد يطرحها مثل هذا الاكتشاف، يأتي في مقدمتها مستقبل السياسة الخارجية الأميركية، فعندما تصبح واشنطن أكثر تحرراً من حاجتها للنفط، كيف سيكون حال انخراطها في الأزمات العالمية وما سيصبح عليه شكل قيادتها للعالم؟

قد يكون لهذه الأسئلة انتظار تحول النفط الأميركي إلى حقيقة واقعة، لا سيما أن منطقة الشرق الأوسط ما زالت ذات أهمية كبرى، وأزمة مضيق هُرمز خير دليل. في هذه المرحلة ينصبّ الاهتمام الأميركي على الجانب التقني لاكتشاف النفط، وعلى تأثيراته الداخلية.

في هذا الإطار كتب والتر راسل ميد في مجلة «ذا أميركان إنترست» تقريراً حول ثورة الطاقة في أميركا. يقول ميد لننسَ الازدهار النفطي. لننسَ الشرق الأوسط. ثورة الطاقة في القرن الواحد والعشرين لا تتمحور حول الطاقة الشمسية أو طاقة الرياح، و«الصراع على النفط» لن يحدّد مسار السياسات العالمية. الوفرة النفطية التي أسهمت في دفع أميركا إلى تولي القيادة العالمية في القرنين التاسع عشر والعشرين عادت لتصير بين أيدي الولايات المتحدة.

وبحسب بعض التقديرات، تستحوذ الولايات المتحدة على موارد نفطية أكثر من السعودية والعراق وإيران مجتمعة. وحدها، كندا قد تمتلك أكثر من أميركا. وفي تقرير نشره في أيار الماضي مكتب المساءلة الحكومي الأميركي يقدّر وجود أكثر من تريليوني برميل نفط في أحد مواقع إنتاج الطاقة المفترض في أميركا. وإن كان بالإمكان الحصول على نصف كمية النفط الموجودة في الموقع، فإن احتياطات النفط الأميركي في هذا الموقع وحده تصبح معادلة للاحتياطات النفطية المتبقية في العالم.

ويتوقع الكاتب في صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية إدوارد لوس، المعروف برصده انحدارات أميركا أكثر من نجاحاتها، أن تتفوق أميركا بحلول العام 2020 على السعودية في إنتاج النفط. وهكذا بدأ العلماء يتكلمون عن أميركا سعودية بحلول العام 2020 بـ15 مليون برميل في اليوم. ويرجع الفضل في هذا إلى المستثمرين في القطاع الخاص الذين استفادوا من ارتفاع أسعار النفط في العقد الماضي ليبحثوا عن وسائل للتنقيب عن النفط الخام في أماكن غير مكتشفة سابقاً، وقد حالفهم الحظ أخيراً.

إضافة إلى ذلك، ترشح احتياطات الغاز الطبيعي أميركا لتصبح أكبر مصدر له، كما أن لدى أميركا الشمالية الإمكانية في أن تصبح من أكبر مصدري النفط الخام لعقود، بل لأجيال مقبلة.

بطبيعة الحال، ما يُحكى عن ثورة في الطاقة لن يكون بمثابة عصاً سحرية تحقق جميع أمنيات أميركا، بل ستكون ريحاً قوية تدفع بأشرعة المركب الأميركي إلى الأمام، في الاقتصاد الداخلي وفي الأهداف الدولية. والولايات المتحدة لن تكون الرابح الأكبر الوحيد في ثورة الطاقة تلك، بل سيكون لكندا وإسرائيل والصين وآخرين نصيب في ذلك، وسيكون لها تأثيرات ملحوظة على دور أميركا في العالم، تحديداً بالاتجاه إلى تدعيم المؤسسات والمنظمات الدولية وفق اتجاه أميركي.

يعود ميد ليركّز في المقام الأول على ما سيتركه هذا الاكتشاف من تأثير على الساحة الداخلية الجيوسياسية والبيئية، قبل الانتقال إلى الساحة العالمية. على الصعيد الداخلي، سيفوق تأثير الاكتشاف النفطي أي قدرة على تخيّله، وسيكون العامل الأكبر في دفع أميركا باتجاه المرحلة الثانية (غير المعروفة بعد) من النمو، حيث يبدأ الحلم الأميركي بالتحقق.

ثورة الطاقة ستنعكس قبل أي شيء آخر على الوظائف. نحن لا نزال في البداية، ولكن بما أن الأزمة الاقتصادية متفاقمة، فإن اعتماد أسلوب التكسير الهيدروليكي (التكنولوجيا الجديدة التي أتاحت الفرصة للوصول إلى احتياطيات كان الوصول إليها متعذراً في ما سبق من الغاز الطبيعي المحصور في تكوينات جوفية) يؤمن وحده حوالي 600 ألف وظيفة جديدة في أميركا. يُضاف إلى ذلك، الوظائف التي ستُستحدث للتنقيب والتكرير لهذه الموارد الجديدة.. وهكذا ستكون الثروة الجديدة ثورة في عالم الوظائف.

هذه الوظائف ذات أجور مرتفعة، وللمرة الأولى منذ جيل مضى سنكون أمام ارتفاع في عدد الوظائف الموكلة لعاملين ذوي خبرات صناعية، وقد تصل بعض الأجور إلى ستة أضعاف من المعدل الحالي، أي أكثر من 100 ألف دولار شهرياً.

ستغيّر هذه الثورة كذلك قواعد النقاش حول الهجرة. سيصبح مطلوباً للعمل أولئك الذين يتقنون جيداً اللغة الإنكليزية ويمتلكون كفاءات تقنية عالية، من معاهد محترفة بتخصصية عالية ومعاهد جامعية تكنولوجية. أما اليد العاملة الأقل كفاءة وإتقاناً للغة قد تشغل المواقع التقنية والأقل كلفة. ومع ارتفاع مدخول حياة العاملين على المولودين على الأراضي الأميركية فإن الهجرة (الشرعية) تتوقف عن أن تكون موضوعاً شديد الحساسية.

هناك إيجابية أخرى: ستتمركز الوظائف الجديدة بعيداً عن السواحل، لا سيما أن خلوّ وسط أميركا من السكان كان واحداً من مآسي الجيل الماضي. إفراغ ما يُعرف بالسهول الكبرى، وهي هضبة مرتفعة واسعة تشمل ولايات نيو مكسيكو وتكساس وأوكلاهوما وكولورادو وكنساس ونبراسكا ووايومنغ ومونتانا وداكوتا الجنوبية وداكوتا الشمالية، من سكانها، كان بدأ يقلق العلماء من عودة جزء كبير من الولايات لتصبح بريّة موحشة. اليوم مع اكتشاف النفط سيضطر كثيرون للانتقال إلى تلك المناطق، ولن تعود داكوتا الشمالية مهددة بأن تصبح بريّة في المدى المنظور إطلاقاً.

تتيح البحبوحة في وسط البلاد تحقيق العديد من الفوائد الاقتصادية اللافتة. ففي كل من داكوتا الشمالية ويوامينغ ترتفع كلفة الاستيراد من الصين واليابان، في وقت تنخفض في شيكاغو وسانت لويس. لذلك يمكن حصر التجارة وأمن الطاقة في الوسط الغربي، وتدشين مدن ومراكز جديدة عدة وفقاً للمطالب الاقتصادية في الجوار، وسيساعد ازدهار الطاقة في بعض الولايات في دعم النمو الاقتصادي في الكثير من ولايات أميركا.

إضافة إلى ذلك، سيتحسّن وضع الدولار على المدى الطويل، وكذلك ستشهد حسابات الحكومة الفدرالية تحسناً ملحوظاً. أضف إلى ذلك ما سيحققه اكتشاف النفط من تراجع للواردات النفطية، كما ستلجأ الحكومة الفدرالية إلى جمع الضرائب على إنتاج الطاقة الجديدة، وعلى جميع مداخيل الأفراد والشركات المعنيّة، بشكل مباشر أو غير مباشر، بهذه الطفرة النفطية.

ستتحول الولايات المتحدة إلى مكان أكثر جاذبيّة لاستقطاب الاستثمارات. بناء البنية التحتية اللازمة لاستثمار هذه الطاقة الجديدة وتسهيل نقل المنتجات النفطية إلى الأسواق تشكل فرصاً استثمارية مضمونة. كما أن اعتماد أميركا بشكل أقل على النفط الخارجي، يصبح الاقتصاد الأميركي أقل عرضة للأزمات المرتبطة بالشرق الأوسط. وهذا نوع من الأمور ينشده المستثمرون: النمو الكبير في الأماكن الآمنة.

… لن تكون الثورة النفطية بمجملها إيجابيّة. ستؤثر هذه الثروة على الإنتاج الأميركي في السوق العالمي. وهنا يفترض النظر إلى أوروبا، وأخذ العبرة من بعض الدول، مثل ألمانيا، كيف تصرفت إزاء تراجع قيمة اليورو، حيث نجحت في الحفاظ على قدرتها التنافسية العالمية.

«لا بدّ من الحرص على ألا تبدّد الطبقة السياسية الثروة النفطية على استثمارات تعود بالفائدة عليهم، من دون تحقيق المصلحة العامة. لا نريد أن نتحول إلى نيجيريا أو روسيا أخرى في العصر الحديث، تسمح للنخب بالحصول على حصة الأسد من الثروة لأنفسهم. وفيما يتم إلهاء الشعب بالإعانات الجذابة، تحوّل الثروات الكبرى إلى مصارف سويسرا».

لن تكون أميركا وحدها من يمتلك ثروة مماثلة، كما لا موجب للتحول ولا إغراء إلى سعودية أخرى تقبع على بحور نفطية، وتلجأ إلى دول أخرى لاستخراجها أو استثمارها. وهذا قد يعدّ شيئاً مطمئناً في أميركا لأن الشركات النفطية الأميركية متقدمة في تكنولوجيات استثمار الطاقة.

وفي النهاية، الحصول على هذه الثروة من النفط والغاز يطرح مروحة واسعة من التعقيدات التقنية والبيئية، قد تستغرق وقتاً للتعرف بالضبط إلى حقيقتها.

إعداد: هيفاء زعيتر

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى