أميركا لا تخطئ… و «داعش» أيضاً/ مصطفى زين
دونالد رامسفيلد يطل علينا من جديد. لكن عبر الشاشة ليكرر عباراته الفلسفية. ويظهر تمسكه بالقيم الأميركية. ومدى بعده عن الواقع. العقائديون مثله لا يندمون. الحق دائماً في جانبهم. يبررون جرائمهم بإيمانهم الديني أو العقدي. يلقون المسؤولية على الآخرين. الآخرون دائماً مخطئون. معظم السياسيين الأميركيين عقائديون مؤمنون بنبوءات التوراة. ريغان كان يؤمن بالتنجيم وبمعركة ارماغدون. بوش الابن كان يتكلم مع الغيب، ويأخذ أوامره من السماء. وإلى جانب كل رئيس قس يوجه خطواته الدينية والسياسية. أما البراغماتية الأميركية فهي الأخرى خاضعة لثوابت أقرب إلى الإيمان الديني. أي أن التغيير يمكن أن يطاول المسائل العامة شرط المحافظة على المبادئ. وأهمها أن أميركا مكلفة نشر ثقافة الحرية حتى لو كان ذلك بإبادة شعوب بأكملها.
ولربما كان عهد بوش الابن الأكثر تمسكاً بالدوغما الأميركية. لنتذكر المحيطين به: ديك تشيني كان يمثل العقل الموجه. المحافظون الجدد كانوا الأداة التنفيذية للفكر اليميني الأشد تطرفاً، من بول وولفوفيتز إلى جيمس ليزلي إلى ريتشارد بيرل… معظم منظري هذا التيار كانوا عقائديين تروتسكيين. انتقلوا إلى عقيدة أخرى تؤمن بالفوضى الخلاقة التي نظرت لها كوندوليزا رايس.
والطريف أن هؤلاء العقائديين (مثلهم مثل الداعشيين) لا يعترفون بأي خطأ ارتكبوه. ومثلهم مكلفون نشر الحقيقة. لا يمكن أن يرتكبوا أي خطأ.
أفضل مثال على هذا السلوك ما قدمه المخرج إيرول موريس في فيلمه الجديد «المعلوم المجهول». وهو فيلم وثائقي مبني على مقابلة مطولة مع رامسفيلد. والعنوان مأخوذ من عبارة شهيرة قالها خلال غزو العراق.
يقول موريس إنه أجرى مقابلات عدة ومضنية مع رامسفيلد. لكنه لم يفهمه. ويعتقد بأنه هو نفسه لا يفهم ما يقول. كما أنه لم يعرف منه لماذا كان غزو العراق. ولم يعترف بخطأ الاحتلال الذي أودى بحياة أكثر من مليون عراقي وتدمير بلد بكل بناه وثقافته وإرثه.
ويؤكد موريس أن رامسفيلد بقي يردد على مسمعه عبارات تنم عن عدم فهم ما يجري في العالم، فضلاً عن فهم العقيدة الأميركية ذاتها. بعض ما قاله تجده في «أوراق اليانصيب التي تغلف بعض الحلويات الصينية» والكثير من التعميم. مثل قوله: «بعض الأشياء ينجح وبعضها لا ينجح». و «إذا كان هذا درساً فهو درس».
ويرى موريس الذي اشتهر بأفلامه الوثائقية ومنها «الخيط الأزرق الرفيع» و «ضباب الحرب» أنه حين أعطى رامسفيلد الفرصة لشرح منطقه لم يفعل الوزير السابق أكثر من ترديد مبادئ سطحية واللجوء إلى التعميم.
ويعلق موريس ساخراً إنها «مبادئ قد تجدها في أوراق الحظ التي توضع في قطع الحلوى الصينية». مثل «غياب الأدلة ليس دليلاً على الغياب» و «بعض الأشياء ينجح وبعضها لا ينجح. وإذا كان هذا درساً فهو درس».
هذا العقائدي المتعنت لم يعترف في الفيلم ولا في كتابه بارتكاب أي خطأ. عكس وزير الدفاع السابق، أيام حرب فيتنام، روبرت ماكنمارا الذي أقر في فيلم للمخرج ذاته بخطأ الولايات المتحدة في شن الحرب. واعترف بالخطأ ذاته في كتاب، لكنه لم يندم. هو مجرد خطأ «تاريخي» تمحوه الأيام أو يسكن مجاهل الذاكرة الجمعية للأميركيين.
والطريف أن كتاباً عرباً انتقدوا ماكنمارا. هاجموه بعنف قائلين: الحرب الفيتنامية كانت ضرورية. وقتل ملايين الفيتناميين كان دفاعاً عن الحرية وقيم العدالة. والكتاب هؤلاء يساريون تائبون مثلهم مثل المحافظين الجدد.
أميركا لا تخطئ. لم تخطئ في تدمير العراق، ولا في دعم إسرائيل، ولا في الحروب السرية التي تشنها حيث تشاء. ولا في الدعوة إلى الاعتراف بيهودية الدولة الإسرائيلية… و «داعش» لا يخطئ أيضاً. الطرفان مرسلان لتأدية مهمة مقدسة.
الحياة