صفحات سوريةمنير الخطيب

أميركا ليست دولة للإيجار/ منير الخطيب

 

 

ما يقال حول انكفاء أميركي عن قضايا المنطقة، يطاول سياسة الإدارة والرأي العام الأميركي معاً، صحيح. لكن ذلك لا يفسر، إلا جزئياً، الآثار السلبية التي لحقت بالمنطقة جراء هذا الانكفاء الذي ليس أقله تقدم قوى و»دول» قروسطية لملء الفراغ الذي أحدثه. على رغم أن ذاك الانكفاء، لبى مطلباً شعبياً عربياً، مزمناً وعزيزاً، خصوصاً على قلوب الإسلاميين والقوميين واليساريين، الذين ما برحوا منذ أكثر من نصــف قرن، يطالبون «الإمبريالية الأميركية» بترك شعوب المنطقة لخياراتها الذاتية.

تتأسس العلاقة الأميركية المضطربة والمتوترة مع شعوب المنطقة العربية وسلطاتها على أربع إشكاليات كبرى: الأولى، اندراج تلك العلاقة في سياق عقدة الهوية التي أصابت المجتمعات العربية جراء تحولها إلى الجزء الهامشي والرث في النظام الرأسمالي العالمي، وعجزها عن الدخول في عصر الحداثة، وبخاصة على المستويين: الثقافي- السياسي، والمجتمعي. هذان المستويان يشكلان قاع التمفصل مع سياسات الدول القومية الكبرى، وغيابهما في بلادنا يقبع في خلفية الاضطراب والتوتر مع السياسة الأميركية، ويسم السياسات العربية، سواء كانت سياسات «دول» أو سياسات أحزاب ومنظمات وفصائل، بأنها سياسات «ضيع» في عالم مدن عملاقة، وسياسات مبنية على الشعور والمعتقد والرغبة، في مواجهة سياسات دول مبنية على المنفعة القومية وعلى المكيافيلية التي تدفع تلك المنفعة إلى حدود، يصعب على «السياسات» الرغبوية استيعابها.

الإشكالية الثانية، انحياز السياسة الأميركية التاريخي إلى جانب إسرائيل، ومساندتها في جميع حروبها ضد الفلسطينيين والعرب، ووقوفها الدائم في مجلس الأمن ضد مصالح الشعب الفلسطيني ومصالح الشعوب العربية عندما يتصل الأمر بالاحتلال الإسرائيلي.

الإشكالية الثالثة، اختزال السياسة الأميركية في بعد واحد وتضخيمه والنفخ فيه. المعادون للغرب عامة، ولأميركا خاصة، لا يرون إلا البعد الإمبريالي في السياسة الأميركية، فهي لا تهدف، بحسب هؤلاء، إلا إلى نهب ثروات «الأمة» العربية أو الإسلامية، تبعاً للمتكلم، وتدمير ثقافتها وهويتها. فيما الموالون للسياسة الأميركية لا يرون فيها إلا مستورداً للنفط، ودوراً للحماية الأمنية، لا سيما في الأزمات الكبرى، ومفهوم الحماية يستبطن في ثناياه فكرة «استئجار» الدور الأميركي.

الإشكالية الرابعة، تتمثل في «السياسات» السلطانية التي تنتهجها «الدول» العربية، التي لا تعبر عن إجماع وطني منعقد حول دولة- أمة، بل هي غالباً ما تعبر عن مصالح اوليغارشيات مالية / فئوية ذات طابع اثني أو مذهبي أو عشائري، أي مصالح جزء من «الشعب»، أما الأجزاء الأخرى، فتكون مهمشة بواسطة مبدأ الغلبة. فالقسم الغالب يريد «امتطاء» السياسة الأميركية لدوام غلبته، والقسم المغلوب الذي يتماهى بالغالب عادة، «يكزكز» على أسنانه متحيناً الفرص، كي تصير الغلبة له، مستبطناً أيضاً فكرة «امتطاء» الدور الأميركي معكوساً لتوفير الغلبة الداخلية لمصلحته.

نعم، كانت استعانة «دول» الخليج بالجيوش الأميركية لتحرير الكويت بعد الغزو الصدّامي لها، تستبطن فكرة «استئجار» الدور الأميركي. واستعانة الشيعة والأكراد العراقيين بالجيوش الأميركية لإسقاط صدام حسين، كانت تحمل، أيضاً، فكرة استئجار دورها لتحقيق الغلبة على السنة العرب. وعندما دارت الأيام، وقامت الثورة السورية، وبدأت تستغيث وتطلب تدخلاً أميركياً في مواجهة مذابح النظام وبطشه، عارضت إيران وحكومة نوري المالكي في بغداد والقوى الشيعية العراقية وحزب الله احتمالات التدخل الأميركي في سورية، لأنه يدعّم موقف السنّة.

هذا الرهط الممانع نفسه لحس كل شعاراته، وصار مع تدخل أميركي في سورية والعراق، عندما انفجرت الظاهرة الداعشية، مستبطناً فكرة استئجار الدور الأميركي لمواجهتها. وعندما طرح وليد المعلم تأجير دور نظامه في مقاومة الإرهاب، بعد تحسسه محاولات أميركا إقامة تحالف إقليمي- دولي لمقاومة داعش، كان يستبطن «امتطاء» الدور الأميركي من أجل إعادة تعويم النظام. لقد عبر الرئيس أوباما، بوضوح، في مقابلته مع توماس فريدمان عن التقاطه لهذا التوجه عند حكومة المالكي، ورفضه أن تكون الضربات الجوية الأميركية غطاء لممارسات طائفية. لذا فالسياسة الأميركية التي تنطوي على جملة لا حصر لها من العناصر الثابتة والمتحركة من جهة، وبوصفها سياسة دولة عظمى قائمة على مبدأ المنفعة القومية من جهة ثانية، وكــونها، من جهة ثالثة، سياسة استوعبت كل منجزات الحداثة، هي سياسة أكبر من أوهام السلاطين والأحزاب الأيديولوجية والمليشيات الطائفية والنزعات الشعبوية في «استئجار» دورها، بهدف تحقيق الغلبة على أبناء وطنهم في الداخل من طريق الاستقواء بها. بل هي سياسة تستأجر كل أولئك، لأنهـــم دون مستوى التحالف مع دولة عظمى، ودون الوطنية، ودون الدولة/الأمة.

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى