أم الشهيد
أنتَ لا تنظر إلى لوحة يوسف عبدلكي، هي تنظر إليك. عليك أن تكون شجاعًا ذا قلب غير “سوري” لتنظر إليها برهةً، ثم تطيل النظر، لتتأمّل مكوناتها وتكوينها ألوانها اللانهائية المتشعبة من لونين اثنين فحسب: الأبيض والأسود.
من الممكن القول إن لوحات الفنّان السوري يوسف عبدلكي تمتلك طاقةً إيحائية تشع أعلى من انتمائها إلى المدرسة التعبيرية.
وإذ تخدع عناصر لوحاته (العصفور القتيل، السكين، الحذاء، الزهور، السمك)، لتزيّن للناظر التعرّف إلى لوحة “الطبيعة الصامتة”، تنطق تلك العناصر عبر اللغة البصرية التي يبثّها عبدلكي، بكلمات واضحة ومحددة: القهر، الظلم، الأسى. وألفاظ غيرها تنتمي إلى الحقل الدلالي نفسه، بل تنتمي إلى “القاموس السوري” الذي يحفظه السوريون عن ظهر قلب.
بعد ما جرى في بلده سورية، أضاف عبدلكي “شيئًا جديدًا” إلى لوحاته، لو صحّ التعبير؛ إذ أدخل الإنسان المقهور إلى لوحته، وترك مراسه في رسم لوحة “المدرسة التعبيرية” يشعّ من عينه، من عين البشر.
الإنسان السوري المقهور بسبب فقدانه أقرب المقربين إليه، هو الحاضر في غير ما لوحة لعبدلكي. الشهيد وإن كان غائبًا جسدًا، فهو حاضرٌ كـ “لوحة” أو صورة في يد أقربائه. فكيف إن كان الإنسان الرئيس أمًا؟
الأم بغطاء شعرها غير المحكم، تمسك بصورة ابنها القتيل، وتنظر إلى رائي اللوحة، كما لو أنه مصوّر. لصق الأمّ الثكلى، الطفلة الصغيرة، التي ترتبط بأمّها وأخيها القتيل، عبر العيون. العيون الكسيرة المختزنة قدرًا لا حدّ له من الألم والحزن السوريين.
تتشابه بشكل مقصود ربّما، ملامح البنت الصغيرة وأمّها وأخيها القتيل: الحواجب المائلة، التي تبدو وكأنها غدت سمة دائمة لا حركة تعبيرية مؤقتة. فالأسى أصاب الروح وأعطبها من الأمّ إلى الابنة.
الطفلة الصغيرة، والأخ المراهق القتيل والأمّ الثكلى، تمثّل في اجتماعها في اللوحة، امتداد المأساة السورية على غير ما جيل.
وراء الشخوص الرئيسة، جدار موشوم برّمته بصور القتلى / الشهداء. لكأنّما عبدلكي أراد القول عبر جداره الموشى بالموت، إن المأساة ليست مأساة الأمّ ولا العائلة، بل تمتد أبعد لتشمل الحي والقرية والمدينة والبلد برّمته.
يتميّز عبدلكي بـ “نسيج” سطح لوحته. الرسم بالفحم يحتمل الخطوط وأدوات الحفر، وليوسف طريقته في وصفها: “عندما أمسك بأدوات الحفر، فإنني أفكر في هؤلاء الناس الذين أسعى إلى التواصل معهم، وأرسم بالأقلام لأتغلب على الإحساس بوطأة الألم والزمن”.
العربي الجديد