صفحات المستقبل

أم خالد أبو صلاح


بادية فحص

قبل خمس وعشرين عاماً.. في أحد صباحات حمص الربيعية، جاءني المخاض إلى جذع شجرة نارنج على ضفة العاصي، أذكر أن الألم حينها قد بلغ مني منتهاه، وجعلني أركض كالهارب من نار يحملها في جوفه، فلا يزيدني الركض إلا لهيبا، وحين صار جسدي يتخفف من وزنه، وروحي ترتقي إلى مكان قريب من السماء، أدركت أنني أقف عند الحد الفاصل بين الحياة والموت، فتمددت على التراب، مستسلمة ليد الأجل الممدودة نحوي، وكنت كلما أوشكت على التمسك بها، يحول بيني وبينها النسيم المترع برائحة الزهر والتراب، الذي يهيم بين شجرات النارنج في البستان خلف منزل أهلي، وبين مد وجزر، وصعود وهبوط، أعاد صوت بكائه ربط روحي الصاعدة نحو السماء بجسدي الممدد على الثرى، كنت قد وضعت حينها ثمرة زواجي الأولى، صبيا أسمر، ممتلئا سحرا وعافية، أسميته “خالد”، وكغيري من أمهات هذه الأرض، نسيت ألمي عندما رأيت للمرة الأولى وجه المخلوق الذي عشقته قبل أن أراه.

وحين استفقت من ألمي، وجدت أمي وأخواتي يتحلقن حولي، وقد رمين سلالهن جانبا، ونادين على “الداية” كي تساعدني في الولادة، لففت وليدي بقطعة قماش بيضاء، وعدت إلى البيت والزغاريد تشق الطريق أمامي، كان “أبو خالد” بانتظاري عند الباب، فحمل طفلنا بين ذراعيه وأذن في أذنه الصغيرة ثلاثا، وقبلني فوق جبيني.

نادت علي أمي، تريني كمشة تراب يطبق “خالد” راحته عليها، وقالت لي إن “الداية” أخبرتها، أن طفلي لحظة خروجه إلى الدنيا، انزلق جسده الطري من بين يديها، مرتطما بالتراب، فسارعت إلى رفعه، ورمته في حضني.

وكبر “خالد”.. وانصرفت لشؤون البيت وإنجاب أطفال آخرين، وكما في قصص البطولات والملاحم، حيث تتجمع الإشارات والدلالات لترسم ملامح البطل، وتضفي عليها ذلك المزيج الغريب بين الحقيقة والخيال، هكذا صرت ألمح في “خالد” الفتي، خوارق خارجة عن المألوف، فتتملكني مشاعر متناقضة، لا قدرة لي على تفسيرها، فأغتبط حينا وأغتمّ أحيانا أخرى.

كل ما استطعت إدراكه في ذلك الوقت، أن ولدي حلم حل في جسد، مارد على هيئة إنسان، وسلمت بما تبوح به عيناه ويداه، وما تحاول أن تنطق به شفتاه، دون أن نتحادث أو نتصارح، عشنا وكبرنا سويا وكلانا يخفي سره عن الآخر، كأننا اتفقنا على الكتمان.. إلى أن حل ربيع الثورة، الذي لا يشبه أي ربيع مر على بلادنا من قبل، هبت علينا من جهة العاصي نسائم محملة بعبق الحرية، وماجت حدائقنا بالزهور، اخترقت الشمس سقوف منازلنا، اجتاح نورها عتمة أيامنا، وتحولت أحياء مدينتنا وساحاتها إلى مروج خضراء، تنتصب فيها قامات الرجال والنساء والأطفال كما الأشجار، وتهدر فيها جداول الدماء في دورة أبدية من الأرض إلى السماء.

قبل أن ينهال علينا الرصاص وتحصد ناره أشلاءنا، ونتفرق في أزقة حينا، كان “خالد” يتنقل بين الجمع، يغني، يرقص، يلوح بدمه للبنادق السوداء المتوارية خلف الحواجز، يتحدى بدفئه، جليد حديدها، مندفعا صوب الموت بكل ما أوتي من حب للحياة، وفرح الوصول بالحلم إلى واقعه المرتجى، شهادة كان أم نصراً..

صرت إذا تقت لرؤيته والإطمئنان عليه، ألتحق بجموع الذاهبين إلى النصر، وكلما فرقتنا ألسنة النار في حي ما، جمعنا حضن تظاهرة في آخر، فأراه هناك يهتف غضبا، ينضح رجولة، ويتلألأ عزما وصلابة، فيزداد قلبي جزعا وأبكي من خوفي عليه، كما لم تبك أم منذ عهد الدنيا بالأمهات، وأتمنى لو يعود بي الزمان إلى تلك اللحظة على ضفة العاصي، كي أحمله وأطير به إلى مكان بعيد عن كل هذا الموت.

منذ أن اشتد علينا حصار الحقد والبارود، بعد أن استبدل المجرم رصاصاته بالقذائف والصواريخ، ودك بها بيوتنا العامرة في حي بابا عمرو، وأهال حجارتها على رؤوسنا، تفرق من بقي منا على قيد الحياة، كل في اتجاه، صرنا لاجئين في مدينتنا، نتبادل الأخبار المطمئنة أو حتى تلك المقلقة عبر الرسل والرسائل، أما أنا فانتظر كل يوم نشرات الأخبار، علّي أسمع صوته وأرى وجهه، أمس وبعد أن كاد اليأس في قلبي يطغى على كل أمل بلقائه، رأيته فوق الجسر يشير بيده المصابة إلى حرائق الموت المشتعلة في ما تبقى من حياة في مدينتنا، ورغم الأسى في صوته، وفي الصورة التي يشير إليها، وجدت روحي تصفق سعادة واحتفاء بنجاته وسلامته من الأذى.. فاعذروني

عزيزتي السيدة أم خالد أبوصلاح.. أنا لا أعرفك ولا أعرف ما هو اسمك ولم أر وجهك يوما في حياتي، وأرغب في ذلك كثيرا، كما أني لا أعرف شيئا عن عائلتك وأطفالك، لكني عندما رأيت البطل الذي أنجبته، حسدتك كثيرا، وتمنيت أن أكون أنت، أو أنتحل مشاعرك وأفعالك المتجسدة في ولدك، وذلك أضعف المشاعر والأفعال..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى