أنا النازحُ وهذه دقائقي/ محمد صابر عبيد
مضى على نزوحي اليوم، أنا وأسرتي، أكثر من خمسة أشهر، والخمسةُ أشهر تتكوّن من مئة وخمسين يوماً، أي ثلاثة آلاف وستمئة ساعة، أي مئتان وستة عشر ألف دقيقة، ولو تورّطتُ في حساب الثواني قد أكون في نظر الكثيرين مبالغاً وضعيفاً وقاسياً على رهافة الزمن ووداعته وطفولته وحسن نيّته، وربّما أُخطئ في الحساب أيضاً، إذ كنتُ حتى ما قبل حصولي على لقب “نازح” بجدارة واستحقاق لا أحسب شيئاً مطلقاً، لا راتبي، ولا أخطائي، ولا أصدقائي، ولا أعدائي، ولا كتبي، ولا مقالاتي، ولا خساراتي، ولا آثامي، ولا سنوات عمري، ولا نفقاتي، ولا مساعداتي لمن يستحق ولا يستحق، ولا ساعات نومي، ولا تفاهاتي، ولا خياناتي، ولا أوقات تأمّلي، ولا شيء البتة.
طبعاً، أنا أسقطتُ عمداً الأيام التي تجاوزت الخمسة أشهر حتى أتمكّن من الحساب بدقّة لأنني ضعيفٌ في الحساب، أرجو أن أكون قد نجحتُ في حساب الدقائق جيداً، لأنّ لكلّ دقيقة من دقائق النزوح هذه قصة، ومعنى، وحسرة، وحرقة قلب، وحنيناً قاسياً، وتذكّراً مريراً، وأرقاً، وضيقاً. لكلّ دقيقة من دقائق النزوح خفقة فؤاد مأسور ودمعة عين شاحبة. لكلّ دقيقة من دقائق النزوح سحابة سوداء خاصّة تنذر بالمصائب والكوارث والأيام السود. لكلّ دقيقة من دقائق النزوح كآبة بلون مختلف ويأس مختلف وضياع مختلف. للمرّة الأولى في حياتي أتلمّس ساعة الوقت ودقيقةَ الوقت بخوف وورع، كما أتلمّس وعداً رسوليّاً بفاجعة، فأجد أنّ ساعة الوقت بحجم برج عملاق يكاد يخترق وجه السماء، ودقيقة الوقت بحجم فيل ملك الزمان وسلطانه هو يدوس كرامات الناس بعنفوان ملكيّ مخوّل، وأعرف أنّ الساعة والدقيقة لا تمضيان بسهولة ويسر ورومنطيقية كما كنتُ أتوهّمُ سابقاً، وأدرك أنّها قاسيةٌ وجبّارةٌ وأقوى من البشر كلّهم مجتمعين. للمرّة الأولى أكتشف ضعفي أنا الذي كنت أحسبني قوياً لا تكسرني الملمّات، ولا تفتّ من عضدي المؤامرات. في كلّ دقيقة أسمع قرقعة كسرٍ ما فيَّ، حتى أدمنتُ الصوتَ فلم أعد أسمعه أو أنتبه إليه. فتحتْ لي هذه الدقائقُ الأليمةُ بوابةً واسعةً مثل قبو مظلم بلا قرار، وجدتُني فيها عارياً من دون قصيدة نثر يمكن أن تستر عورة عقلي، أو صديق باسل يمنع غائلة الزمن من إلحاق هزيمة منكرة بي.
لماذا الدقيقةُ هنا يا إلهي مكبّرةٌ إلى درجة مروّعة تمتدّ على جسدي مثل دبيب قافلة من النمل لا تكاد تنتهي؟ لماذا تتوقّف كثيراً عند ثوانيها السائلة مثل متسكّع عاطل مأخوذ بذاته الصعلوكيّة بلا مبالاة، ولا تكترثُ بعينيّ الراصدتين وهما ترقبان حركاتها بخشوع وتوسّل وتسوّل؟ لماذا تستهتر بوجداني المهزوم كلّ هذا الاستهتار؟ ربّما هي حكمةٌ إلهيّةٌ مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ لا سبيل إلى محوها أو التلاعب بها، وما أنا سوى مخلوق هلوع ليس في وسعي سوى الاستعانة بالصبر والصلاة والدعاء غير المستجاب.
في هذه المئتين وستة عشر ألف دقيقة اضطررتُ أن أحوّل سكن أسرتي أربع مرّات لأسباب سايكو درامية! لا أهمية لذكرها في هذا المقام. في هذه المئتين وستة عشر ألف دقيقة كنتُ أذرع شوارع المدينة، مدينة وان، van في أقصى الشمال التركيّ أكثر من خمس ساعات يومياً بحذاء رياضيّ يصلح لسباق المسافات الطويلة. لم يبقَ شارعٌ أو زقاقٌ فيها إلّا وداسته أقدامي الباحثة عن المجهول، حتى صرتُ الآن أعرفها أفضل مما أعرف مدينتي السابقة، الموصل. أستطلعُ الوجوهَ وأجلس على مقاهي الرصيف المتناثرة في شوارعها كالعناقيد، وفي الحدائق العامة، وتحت مظلّات انتظار سيارت النقل العام، وأتناول الشايَ الوانيّ من غير سكّر، ولا أدري ما السبب الذي جعلني لا أضع أيّةَ قطعة سكّر في الشاي مذ وصلتُ هذه المدينة نازحاً لا ألوي على شيء. هل السكّر في الشاي صورة من صور الرفاهية أم أنّ مرارة الشاي ضروريةٌ كي أقبلَ حياتي (الحلوة!) على قدر من التوافق والطمأنينة المرّة؟
باهوس، بائع السمك الذي تنبأ في الأيام الأولى من نزوحي، بأنّ عودتي إلى مدينتي لن تتجاوز الثلاثة أشهر، حينها كان يتحدّث بثقة عرّاف وطمأنينة كاهن وبشرى رسول على الرغم من صغر سنّه، زرتُهُ آخر مرّة في شارع mars بعد انقضاء زمن النبوءة المزعومة ولا أزال أذرع شوارع وان بلا أمل، استقبلني بفتور ولم يحتفل بي مثل المرّات السابقات، ولم يجاملني بالتنازل عن جزء ولو بسيط من سعر السمك، وكأنني المسؤول عن سقوط نبوءته واندحارها، فقرّرتُ على الفور الامتناع عن زيارته حتى لو لم آكل السمك طوال حياتي، وحتى لا أُحرج تطلعاته النبويّة، ولا أُشعره بقلّة كفاءتها وإخفاق رؤياها، ولم أتناول السمك بعد ذلك مطلقاً.
الحكومةُ العراقيةُ الرشيدةُ بإحساسها الأبويّ الراقي بمعاناة النازحين ومآسيهم وتشرّدهم وشتاتهم وقهرهم، خصّصتْ كما سمعنا وقرأنا مليار دولار لإعانة مليوني نازح بحسب آخر إحصاء رسمي، وقد اضطرّني الأمر مرّة أخرى إلى استخدام الحساب كي أعرفَ حصّتي وحصة عائلتي من أموال العراق الحلال، إذ قسّمتُ المليار دولار على المليوني نازح فعرفت أنّ حصّة كل نازح هي 500 دولار (هل أخطأت في الحساب؟). وبما أنّ أسرتي مكوّنة من سبعة أفراد فهي تستحق 3500 دولار، أي ما يعادل 8000 ليرة تركية تقريباً، وهو مبلغ يكفيني لثلاثة أشهر هنا بعدما أتقنتُ فنَّ التقشّف، وربّما أكثر من ذلك قليلاً إذا ما نحّيتُ مفردات جديدة من قائمة احتياجاتي الضرورية. لكنّ أحداً لم يسأل عني، ولم يتّصل بي لإيصال حصّتي هذه حتى الآن، وأنا على ثقة عالية بأنّني لن أحصل عليها. فأنا بعيدٌ جداً عن اللجان (النزيهة!) التي أخذت على عاتقها إيصال المبالغ إلى مستحقيها، فضلاً على أنّ ما أراه يومياً من سوء أحوال النازحين وبؤسهم وموتهم البطيء وهم على مرمى حجر من جولات هذه اللجان المتنعّمة بالإفادات والامتيازات وغيرها، ولا شكّ في أنّ أعضاء اللجان يقومون بعمل وطنيّ وإنسانيّ جبّار ولا بدّ لهم من مكافآت مجزية يقتطعونها طبعاً من المليار دولار المسكين الآنف الذكر، فالنازح وقد ترك بيته وعمله ومستقبله وكلّ ما يحبّ، لن يضرّه إذا لم يحصل على بركات المنحة المقرّرة له، أو يحصل على نصفها أو ربعها، ولن يضرّه كثيراً إذا كانت الخيمة التي يسكن فيها مع أسرته لا تقيه برد الشتاء ولا حرّ الصيف، فهي في النهاية خيمةٌ سواء بخمسمئة دولار أو بأربعة آلاف دولار، وطالما أنّه ترك بيته فعليه أن يتحمّل وينتظر ولا يحقد.
نحن هنا نازحون بعيدون منسيّون طارئون نتنازل عن حقوقنا المشروعة من المليار دولار بكرامة لأننا واثقون أنّها لن تصلنا حتى لو تدخّلت المنظمّات الدولية كلّها. نتحمّل، وننتظر، ولا نحقد. المدينة الصغيرةُ الجميلةُ التي نعيش فيها مدينة (وان) تعاملنا معاملة الأهل. من بحيرة وان إلى قلعتها إلى شوارعها إلى أرصفتها إلى أسواقها الشعبية وماركيتاتها الحديثة، تجتهد خلايا هذه المدينة ما وسعها ذلك لتُشعرنا بالأمان وبأننا لسنا غرباء ولسنا نازحين. وحين يكون في هذه المدينة أصدقاءُ من طراز محمد شيرين تشكار وعبد الهادي تيمورتاش، فإنّ ضغطَ الدقائق المقيت يخضع على أيديهما الكريمة للكثير من التلطيف. لم يتركا شيئاً جميلاً ممكناً إلّا وفعلاه بكرم لا يوصف. قدّما لنا أشياءَ كثيرةً منذ لحظة وصولنا حتى الساعة، جعلتنا نتحمّل الغربة وإحساس النزوح وفداحة المصيبة. يقدّمان كلّ ما في وسعهما بسهولة ورهافة ومحبة وبساطة وعفوية تقترب من روح الشعر التي أعرفها جيداً. لقد استطاع كلّ منهما أن يكون قصيدةً جميلةً في حياتي، قصيدة تمشي على الأرض تتبختر بسحرها وأناقتها وحيويتها وامتلائها بالمعنى والقيمة والأمل، تتنفّس لغتها وصورها وإيقاعها على نحو يعيد إليَّ ثقتي بالأشياء وقد انتزعتْها ببربرية وحشيّة حجافلُ المآسي التي حلّتْ في بلدي بكثافة عجيبة. إذا كان الدمُ العراقيّ فائضاً على حاجة الإنسانية وزائداً على لزوم البشرية ويستهلك قدراً كبيراً من هواء الطبيعة، فلا بأس أيّها الربّ الرحيم بزلزال عظيم يخسف أرض العراق ليجعل عاليها سافلها، ويمحوها من الوجود في لحظة خاطفة تنهي كلّ شيء، بدلاً من هذا الموت البطيء غير اللائق بالبشر، على رأي شاعرنا السيّاب القتيل: رصاصةُ الرحمة يا إلهي. أم أنّ رأفتَكَ بنا وصلتْ إلى حدّ أن تعذّبنا في دار الفناء (الحياة) كي تفتح لنا أبوابَ جنتّك على مصاريعها في دار البقاء (الآخرة) بلا حساب؟
اسمُ الفاعل، نازح، أصبح اليوم أشهرَ اسم فاعل في تاريخ اللغة العربية، وموجات النزوح العراقية أصبحت اليوم من أشهر موجات النزوح في تاريخ البشرية، ولعلّي أضع اسم فاعل آخرَ يقابله وله صلةٌ وثيقةٌ به هو “فاسد”، وقد أصبح اليوم أشهر اسم فاعل تستخدمه الثقافة السياسية العراقية، وموجات الفساد العراقية صارت اليوم من أشهر موجات الفساد في العالم. إذ كلّما ابتكر الساسةُ العراقيون سبلاً جديدةً للفساد تضاعفتْ أعداد النازحين وتعاظمت فجائعهم. فهي معادلةٌ رياضيةٌ لا تقبل الدحض، أقرّتها فلسفات العالم كافّة من سقراط حتى الآن، وكلّما توسّع حجم الفساد وكَثُرَ رعاتُهُ حكومياً وبرلمانياً، تحجّرتْ دقائق النازحين المنفيين من أمثالي وتكلّستْ وتحيونتْ حتى بدتْ كأنّها جامدة لا تتحرّك. فمن أين لي بعضلات شمشون الجبّار بلا دليلة كي أمسك بخناق هذه الدقائق اللعينة وأجعلها تركض كما تركض كلّ دقائق الناس الأحرار في العالم.
أيّها العراقيون المظلومون، مسلمون ومسيحيون وإيزيديون وصابئة مندائيون، سنّة وشيعة، عرب وكرد وتركمان، مؤمنون وملحدون، فقراء وأغنياء، أسياد وعبيد، سادة ودراويش، عقلاء ومجانين، شرفاء وعاهرون، متعلّمون وأمّيون، مجرمون وضحايا، سعداء وأشقياء، شيوخ ورعاة، حكّام ومحكومون، سجّانون وسجناء، شعراء ومتشاعرون، أقوياء وضعفاء، من أهل البرهان أو من أهل العرفان، رجال دين أو حرّاس دور بغاء، نساء ورجال وأطفال، غادِروا تراب العراق الملعون المسكون بالجنّ والمَرَدة والشياطين مغادرةَ رجل واحد وسيحوا في أرض الله الواسعة، وكونوا بشراً أحراراً بلا وطن ولا حدود ولا جنسية ولا جواز سفر ولا هويّة ولا علم ولا نشيد وطنيّ ولا حضارة كاذبة عمرها آلاف السنين. فإمّا أن يكون للإنسان وطنٌ عزيزٌ وقويّ يحترم مواطنيه ويقدّسهم ويرعاهم ويمجدّهم ويرفع رؤوسهم عالياً، وإمّا أن يتفرّقوا شذر مذر يحملون على ظهورهم مآسيهم المعتّقة ويلعنون اليوم المشؤوم الذي وُلدوا فيه.
النهار