صفحات المستقبل

أنا ايريل دخلت “جلد الجهادي” بقناع صحافية/ روجيه عوطة

 

 

غيرت آنا إيريل إسمها إلى ميلاني. ارتدت الحجاب، وجلست في غرفتها تتكلم عبر “سكايب” مع “أبي بلال”، أحد مقاتلي “الدولة الإسلامية”. دخلت في جلده، على ما عنونت كتابها الصادر مؤخراً عن “دار روبير لافون”، وذلك، على طول شهر من الإتصال، الذي بدأ بدعوتها إلى الجهاد، واختتم بدعوتها إلى الزواج. انفصلت آنا عن موقعها، كصحافية، وأصبحت فتاة راغبة في الإنضمام إلى صفوف “الداعشيين”.

فتشت إنترنتياً عن مجنّدها، ووجدته في “أبي بلال”، الذي وصفته بأنه اليد اليمنى لزعيم “الدولة” أبو بكر البغدادي، والمسؤول عن جباية الضرائب وإدارة المعارك في منطقة الرقة. لم يسألها كثيراً عن أصلها العائلي، استفهم إن كانت مسلمة فقط، وعندما أجابت بـ”نعم”، شرع في الحديث معها، محاولاً جذبها إلى تنظيمه. خرجت إيريل من جلدها لتدخل جلده، لكنها، سرعان ما أوقفت الدخول، وانسحبت، لتصبح عرضة للتهديد اليومي.

لا شك أن دافع إيريل إلى التواصل مع “أبو بلال” هو الحيرة، التي تصيب المجتمع الفرنسي اليوم، حيال التحاق الكثير من أفراده بتنظيم “الدولة الإسلامية”. وهذه الحيرة تترجم في تحليلات وكتابات مختلفة، مرةً، تكون سوسيولوجية، ومرات، سياسية، وحيناً، بسيكولوجية، من دون أن يأتي أغلبها بسؤال مصيب على الأرجح. فهناك مجموعة كبيرة من الفرنسيين يقاتلون الآن مع “داعش”، وقد عبأهم “جهاديون” على الشبكة الإلكترونية. البعض يشير إلى أن عددهم فاق الألف، نساءً ورجالاً، فقراء وأغنياء، وقد اختفوا، ليظهروا في سوريا والعراق. ثمة، في كل ذلك، أزمة تضرب المجتمعات الحديثة، الرأسمالية على وجه الدقة، لدرجة شيوع فكرة أن كل شخص فيها معرض لأن يكون إرهابياً بلا علمه.

ربما، من باب الحيرة هذه، انتقلت الصحافية إيريل إلى حيلتها الإستقصائية، عبر التنكر بسمات السذاجة، التي سمحت لها بالتقدم نحو “أبي بلال”، وأتاحت له أن يواصل الكلام معها، من “فايسبوك” إلى “سكايب”، من الكتابة إلى التصوير المباشر. فقد وثق بها “الجهادي” انطلاقاً من البساطة، التي أظهرتها، وبالطبع من المشهد، الذي وضعت نفسها فيه، ومن اللغة العربية، التي تكلمتها بطريقة مكسرة. تالياً، أدركت أن “أبا بلال” كان يعيش في فرنسا، وإسمه رشيد، وهو من أصل جزائري. في العام 2000، تطرف، وبعد فترة، ترك البلاد، وهاجر إلى العراق ليشارك في محاربة الجيش الأميركي، ثم، انتقل إلى أفغانستان، وبعدها إلى ليبيا إبان سقوط القذافي.

أخبرها عن قساوته اتجاه “الأعداء”، وعن قطع رؤوسهم، وعن رقته اتجاه “الأحباء”. مدّها ببعض المعلومات عن تنظيمه في فرنسا. ذكر لها قاتل الدراجة النارية، محمد المراح، الذي قتل عددا من الأطفال اليهود عام 2012 في تولوز. إعترضت، وعبّرت عن حبها للأطفال، فأجابها:” كم أنت طيبة، ميلاني.. تحبين الأطفال؟ يوما ما سيصبح لديك أطفال إن شاء الله، هل تعلمين، يوجد هنا الكثير من الأيتام الذين ينتظرون أماً، والأخوات في داعش يهتمون بهم يومياً، إنهن رائعات.. ستنسجمين معهن، فأنت تشبهينهن كثيراً”.

أخذ أبو بلال بصورة إيريل، كفتاة بسيطة، محاولاً توجيه سذاجتها صوبه، وصوب “دولته”. من ناحية، تتقنع بالسذاجة كي تتصل به، ومن ناحية أخرى، يقتنع بصورتها كي يجلبها نحوه. تلاقي المقنَّع والمقتنع، المتنكر في حديثه والجلي في دعوته، تلاقٍ لا يستمر، بل ينتهي مع عرض الزواج، الذي يقدمه “أبو بلال” لـ”ميلاني”، حيث بإمكانها أن تأتي إلى الشام، وتتزوجه، وبالفعل نفسه، تجاهد في سبيل الله، بالقتال وبمساعدة المرضى، أو بأي وظيفة في “الدولة”.

داهم الوقت إيريل. قررت أن تنهي الإتصال مع “الجهادي”، الذي علم أن الفتاة ليست كما تبدو في صورتها. فهي صحافية، تقربت منه كي تكتب عن تجربة تجنيدها. أسقطت قناع السذاجة عن نفسها، عادت إلى جلدها الأول، أما هو فراح يهددها يومياً، بعد أن أدخلها إلى جلده، الذي يسعى إلى توسيعه، أو إلى الإبقاء عليه وتمديده. إنتهت مقايضة قناع البساطة بجلد الجهاد، وانهارت الثقة المفبركة بين “ميلاني” و”أبو بلال”، حتى أن “الدولة” أصدرت فتوى بتصفية إيريل، لأنها احتالت على أحد أفرادها.

لقد ولجت إيريل جلد “الجهادي”، المعد لإدخال المجندين إليه، في حين، دخل هو إلى قناعها، وعندما سحبته، قرر اغتيالها. هل سيكتب يوماً ما عن دخوله إلى جلد “كافرة”، عن ثقته ببساطتها، لتتكشف، في ما بعد، عن حيلةٍ صحافية؟ تقول إيريل أن “أبا بلال” مات، لكن، شبحه لا يزال يلاحقها، ولا يزال جلده ينشرح نحوها.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى