صفحات الثقافة

أنا زوجة الشهيد

بقلم: سُرى علّوش

أنا زوجة الشهيد. لا أشعر بالفخر, ولا أرفع رأسي عالياً بين أصدقائه, ولا أقبل عزاء الناس به, ولا أقول لأطفالي كم من الرائع أن صعد إلى السماء على درج من الورد الأحمر, وإنه مازال ينظر نحونا من هناك. لن أصدق شيئاً عن البطولة في الحرب, ولن أقنعهم بذلك كي يكفوا عن البكاء وينسوا. أنا زوجة الشهيد التي مزقها الوطن, وأغلق باب بيتها عليها وتركها وحيدة. أكره الحرب. لا تعنيني انتصاراتكم وهزائمكم, ولا أصدق خرافة المنافي والأعداء. لا تكذبوا عليّ بعد الآن, أنا البنت التي جعلتم منها أرملة بموافقة الله لتتوجوا آخَرها بطلاً بأوهامكم وترفعوه إلى السماء دون أن يقول لها شيئاً أو يطلب الغفران منها بدلاً من أن يطلبه من غيرها.

كنت أحبه قبل الآن؛ قبل أن يفضل الجنة عليّ, و يعرف أنني قد أمضي أعواماً طويلة دون أن أستطيع فهم غيابه أو تفسيره, أو أتصالح مع الحياة دونه؛ ورغم ذلك ذهب. أنا زوجة الشهيد وإثمه الأزلي. لا يصلح ندمه ما أفسده الألم, ولا يضمد موتُ القاتل قلباً لن ينام أبداً. لم يحبني يوماً كفاية كي يكتفي بي, أو كي لا يرسل قلبه إلى الحرب ويلحق به. لم يقايض بي شيئاً, فأنا لم أعن له أكثر من امرأة وضعها في بيته ليصبح أباً ويتباهى بمجده العاطفي.

أنا أم أطفاله الذين أحب نفسه أكثر منهم, فغادرهم يتامى مكلومين ومضى إلى حتفه المحتمل ليصبح واحداً من أحباب الله. لم يجيئوا به إليّ لأقبّله مرة أخيرة, أو لأسكب الماء فوق قبره وأتلمس اسمه المحفور سكيناً في الخاصرة؛ فأنا مجرد امرأة قضت عمرها بانتظاره, وقدر النساء أن يأتين القبور بعد مضي الرجال. دفنوه تحت أحذيتهم واستداروا عائدين. لم يغنوا له كي لا تأكله الوحشة, ولم يفركوا ترابه الجاف بدموعهم ليصبح أكثر راحة فوق جسده. مضوا يصرخون بأسماء الله الحسنى ويحسدون الشهيد. زغردن لي أيتها النساء الباليات, وتعلمن كيف ترتق امرأة حكايتها في حضرة الموت, وكيف تغلق جرحها وتهزأ منكن ومن رجالكن العائدين للتو بنعوة حبيبها, فلكل منكن موت منتظر سيفضح إيمانها, ولكل منهم بيت يحلم به في الجنة سيخرج لأجله ولن يعود.

لن أفكر به من الان وصاعداً, ولن أتمنى لو أنه لم يمت. لن أرتدي الأسود لحداد أبدي؛ فالوطن الذي قضى من أجله بلون داكن كان يعرف كل الألوان الفاتحة, ويحبها أيضاً, والأطفال الذين يتّمهم ليصبحوا رجالاً مازالوا يشترون الحلوى الوردية ويحلمون بالصيف ويرسمون الأشجار خضراء والشمس ذهبية والبحر أزرق على دفاتر الرسم, والمرأة التي يريد لها كل من يعرفه أن تهرم تحت قداسة اسمه ووطأة ذكراه مازالت صبية لا تفهم الفراق ولا تنظر في أسبابه السماوية.

كان باهتاً كأغلبكم, ومحارباً على جبهة واحدة. أتذرع بالحب ويتذرع بالمشيئة. أكتب عنه ويكتب عن الجبال وعن الإله الواحد وعن رفاق السلاح. أحدثه عن الذكريات التي بيننا فينشغل بحقيبته الوحيدة التي يحزمها للرحيل ويغلقها بالنسيان. أصنع له قوس قزح بثيابي فيحدثني عن الطغاة والمعتقلات. أفرد له روحي المنكوبة به وبمن مثله, فيفرد لي صور الأصدقاء الذين انقطع عنهم منذ انقطع عن الوطن.

لا تحدثوني عن العفة والصبر والإيمان. لا تفقؤوا عينيّ بترهاتكم ولا تتهموني بالكفر. أنا زوجة الشهيد وفكرته الخاطئة عن الحياة الدنيا. لم أكن يوماً سجاناً أو محققاً, ولم أنتسب لحزب أو تنظيم أو جماعة, ولم أردد شعارات الوحدة والحرية والاشتراكية. لم أرفع علماً ولم أكتب قدراً. لا أفهم نشرة الأخبار ولا أصدقها. لم أسرق ولم أقتل ولم أكذب إلا على والديّ. لم أخن ولم أصفق ولم أحن رأسي ولم أقف في صف أحد دون غيره؛ فلماذا سن سيفه في وجهي وقتل روحي انتقاماً من عذابات الأرض وعار أهلها؟

أنا أرملة الشهيد وحظه العاثر. لم أعد أؤمن بالحب ولا أنتظر الرحمة, وطني ضحكة طفل من أطفالي قتلتها عتمة القبور, وصرخة طفل لا أعرفه تمسك يدي الجلاد وتشق الجدران ليسمعها الرجال مثلكم ويصفقوا له. وطني قطعة خبز يلهث وراءها جار أخوتي ليرجع بها إلى البيت وحجر صغير يلقي عليه رأسه طفل مشرد حزين. أنا رفيقة الشهيد الأعزل من وهج الحياة, وصخب جنونه الأبدي على أرصفة الشحاذين, والطرقات المسدودة في وجه الحب. أنا من أحمل رسالته من بعده ولذا سأقول لأولادي: لعنة الله على بلاد تنجب خيبات العشاق ولا تنجب أحلامهم. لعنة الله على بلاد يخشى الصغار فيها أمهاتهم ولا يخشون الرصاص. لعنة الله على بلاد تربي أبطالها لتأكلهم. لعنة الله على بلاد تزف الموتى بالزغاريد ولا تبكي عليهم. لعنة الله على بلاد يحكم الثأر قلبها وتمنح جسدها لمن يدفع ثمنه. لعنة الله على بلاد نمهر تفاصيل مدنها بقصائدنا وتتزوج اللصوص . بلغوا عني وصيتي قلبي الذي عطبه الوطن معلق على حبال الغسيل مع قمصان الشهداء مسحوق تحت أحذية العسكر

مجروح برماح الفرس والعرب غارق بالخطايا التي ليس من شأن أحدكم أن يغفرها جالس على عتبات البيوت عالق في أسلاك الحصار الشائكة مبتور كساق وحيدة تحت الأنقاض من رآه منكم فليصوب بندقيته نحوي وليقتلني قبله..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى