صفحات الناس

أنا سلامة اليرموكي.. وسأركب البحر/ رشا الأطرش

 

أنا اليرموكي وقد صمّمت. أستاذ موسيقى وراقص. عمري 28 سنة. وسأركب البحر.

لا يسعك، وأنت تستمع إلى الشاب يروي حكايته والحكاية التي قد يكون بطلها بعد أيام قليلة، إلا أن تفكر في مدخل لهذه الرواية. تفكّر له باسم جديد. ليس وفاء للخيال، فلا خيال هنا. بل حقيقة، وكاملة. اسمه المستعار مساهمتك المتواضعة في ضمانة رمزية لسلامته. وأي سلامة. هو الذي سيطير ويبحر، ويساكن أغراباً في “بيت” موسمي عند شاطئ حراسه مرتشون. تختار أن تسمّيه بأمنيتك البسيطة، علّ قَدَراً لطيفاً يرفق به. فليكن سلامة.

أنا سلامة اليرموكي الذي لا تستقبلني أرض. ملعون بأوراقي الثبوتية التي لا تثبت شيئاً، ولا حتى اسمي، ولا حتى صورتي. لكنها كالحفر في الصخر لا تزول، منذ ولدت، منذ ما قبل الولادة. في جيبي كمفتاح، لا يطابق أياً من أقفال السجن. نزحت عائلتي من المخيم إلى قلب دمشق التي استَنبَتت من بطنها الحواجز. خافوا أن أمرّ بأحدها، فأُستَفَزّ أو أخطئ في إجابة، فلا أكمل طريقي. أصدقائي كانوا ناشطين إعلاميين لقضية المخيم، واعتقلوا. وسُدّت أبواب العمل. حبيبتي قالت لي: الله يوفقك. قلتُ لحبيبتي: لا تنتظريني، البحر ينتظرني.

يتابع سلامة الأخبار أولاً بأول. سوريا، طبعاً. لكن الأهم اليوم: ليبيا التي لم يتسقّط أنباءها في حياته، والآن يترصّد فتح مطار بنغازي. آماله معلّقة على صورة المذيع، وعلى صوت بلا اسم إلا أنه يحفظ رنّته مثل إسمه اليرموكي المكتوم. عبر هاتفه المحمول، يرسم مع المهرّب خط سير طويل محفوف بالمجهول، كذلك الذي تقتفيه بإصبعها بصّارة في جوف فنجان فارغ إلا من رواسب بُنٍّ معتم.

أنا سلامة اليرموكي، ومَن يختار الطريق هذا، لا يكون مالك خَيارات. هنا، في بيروت، لا عمل ولا أوراق. وهناك، في الشام، حرب. الخطر نحن نعرّفه. الموت خلال محاولة، ولا الموت في قبو تعذيب. ليبيا إذن. مِن الزوارة، المدينة الساحلية جارة تونس، سأطلع إلى الواسع الأبيض المتوسط. لا أعرف ما ينتظرني، مهما روى رفاقي الذين سبقوني، ومهما شرح ذاك الصوت بلهجة ليبية (أم أنها عربية فصحى؟). يقول إن ثمة من اشترى لي البحر. “هذا البحر لي”، أردّد لنفسي التي يعوزها وقار محمود درويش. طريقي عبر المالح، لي، إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، بخمسة آلاف دولار. بعضها ادخرته، وبعضها من أهلي، وبعضها الأخير دَين سأردّه، سأعيش لأردّه. لستُ خائفاً. حدسي يحدثني بنهاية سعيدة. الأمل حبّة تحت اللسان. لم تحصل مشاكل مع هذا المهرّب من قبل، وسيطيّرني إلى بنغازي. يعترف الصوت بأنه لا علاقة له بـ”جماعة البحر”، وإن كان يعرفهم. هذا شغله. لا أهتم لأكثر من ذلك. أفهم أنه راضٍ عن أداء “البحريين”، لكن “عموماً.. لك الله”. لا أعرف عن كتائب بنغازي سوى أنها كتائب، وفي بنغازي، وستمنح مهرّبي موافقة أمنية لهبوطي في مطارها. هنا، في بيروت، لا ينتهي المجهول. هناك، مجهول أيضاً، لكن آخِره معروف، على الأقل أعرف إحدى نهاياته: أني سأعيش كلاجئ بأوراق أوروبية، ستكون لي حقوق، وسأعمل، وسأدرس، وسأتنقل بلا قيود. في فمي حبّة أمل تذوب.

العادي ألا يدخل فلسطيني معظم دول العالم إلا بموافقة أمنية مسبقة، منذ ما قبل الثورات، ولا شيء تغير. سيخرج سلامة من مطار لبنان نظامياً، ويدخل بنغازي نظامياً، ثم طيران داخلي إلى طرابلس، ثم سيارة إلى الزوارة. هناك “مأوى آمن” لحمولة بشرية تنتظر مركباً، حمولة لا يعرف سلامة منهم سوى نفسه. سيمكث في “البيت” فترة غير معلومة. يومان ربما، أو أسبوعان. البحر مدفوع ثمنه مبدئياً. لكن الطقس ليس للبيع. سينتظر صفاء السماء وهدأة البحر، واللحظة التي يختارها خفر السواحل الإيطاليون ليدّعوا النوم. ساعتها، يجلس في المركب، غير آبه إن كان سينوء بهم جميعاً. يسمع أن الغرق، في مثل هذه الرحلات، يكون بسبب مركب مهلهل، أو مُحمّل بأكثر مما يحتمل. يسمع أن المافيات المتقابلة قد تتبادل إطلاق النار، إن وقع خلاف مالي، أو قرر أحدهم أن المبلغ غير كاف. لكنه متفائل، ربما لأن أبطال الحكايات لا يتشاءمون. حسبهم أن يصنعوا الحكاية، تاركين القنوط لمَن تلفّهم عتمة الصالة.

أنا سلامة اليرموكي، وسأسبح بمجذافين. اثنتا عشرة ساعة ربما، أو أكثر. أتمرّن على الدوار، وأنا جاهز. أخطّط لملء الساعات بنداء الاستغاثة. سأكرره في رأسي كتمرين الصولفيج. أنا أستاذ الموسيقى، أتعوّذ بعبد الوهاب. أنا الراقص، سأعلو وأهبط مع الموج. بعد اثنتي عشرة ساعة أو أكثر، سنطلق النداء، أنا سأغنّيه (أم أنه مجرد إشارات ضوئية صامتة؟)، وستنتهي الرحلة بسحبنا إلى الشاطئ الإيطالي.

في إيطاليا، لن يبصم سلامة دخوله. لقد حضّر درسه جيداً. بحسب القانون الأوروبي، إن بصَمتَ في بلد، فعليك أن تطلب اللجوء فيه. حدث أن أجبرت السلطات الإيطالية لاجئين مُهرَّبين على البصمة، ثم صارت تتساهل. ليسوا متحمسين لاستقبال لاجئين، واللاجئون لا يتحمسون لإيطاليا. في جيب سلامة ألف يورو تؤمن له طريقه إلى بلد لجوء أوروبي. إيطاليا ممرّ. عينُه على الشمال الذي سبقه إليها أصدقاء، بعضهم يعمل في الفن وكوّن فرقاً موسيقية. أحدهم في الدنمارك منذ عام ونيف، أدخلوه المدرسة ليتعلم اللغة، ويدفعون له بدلاً مالياً للسكن والطعام. خيّروه أخيراً بين البحث عن عمل أو التسجيل في الجامعة على أن يساعدوه في الأقساط. وسلامة، ابن موسيقى. يتمنى التخصص في التوزيع. آلته الأساسية الإيقاع. أبوه كان هاوياً وعلّمه منذ الصغر. وفي المعهد في دمشق، اختار الأكورديون، وعنده إلمام بالعود والفلوت والبيانو. منذ وصوله إلى بيروت، في كانون الثاني/يناير 2013 وهو يراسل مؤسسات في أوروبا، كتب مشاريع وتصورات، لكن ما إن يعرفوا جنسيته حتى يرفضوه. لا حلّ إلا برحلة شيطانية.

دخل إلى بيروت بشكل عادي. تصريح أمني من دائرة الهجرة والجوازات الفلسطينية التابعة للحكومة السورية، وفيزا عند الحدود اللبنانية بـ25 ألف ليرة. لكن تفصيلاً صغيراً حوّل حياة سلامة في بيروت جحيماً من الاستدعاءات والتحقيقات. تفصيل يستدعي ضحكاً ودموعاً. ظهر في “الكونترول” اللبناني أنه “فنان”، مع أنه لم يُسجّل يوماً في أي نقابة فنية في سوريا. لا يحق “للفنان” القيام بأي عمل عام أو خاص إلا بعد مراجعة “دائرة الفنانين” التابعة للأمن العام اللبناني. مَن نصب له هذا الفخ وسجّله “فناناً”؟ يدفع نصف عمره كي يعرف، لكنه لن يعرف. اللقب ذو الرنة، الأزمة التي أيقنها منذ اللحظة الأولى. يُفترض أن الفيزا اللبنانية الصالحة لأسبوع، تُمدّد شهوراً ثلاثة، تلقائياً، بحسب اتفاق بين الأمن العام والأونروا، لكن المشاكل التي سمع بوقوعها عند الحواجز جعلته يسعى إلى إقامة… وبدأت الدوامة.

أنا سلامة اليرموكي، والبحر مطيّتي إلى عمري الباقي.. وإلا فتابوت أزرق رحب.

عاد إلى سوريا لتجديد جوازه الذي ذابت صورته الشمسية، وفي هذه الأثناء صدر قرار بمنع دخول الفلسطينيين إلى لبنان إلا للعبور. علق في دمشق 25 يوماً، ثم وعده سائق تاكسي بإدخاله: “رشّ 300 دولار وبيمشي الحال”، قال له. وقد كان. أعاد تقديم الجواز لنيل إقامة لبنانية، واستعادته الدوامة في حضنها، أعنف. كيف تعيش؟ أين تعيش؟ زيارة إلى منزل مضيفيه شرق بيروت. مراجعة في بعبدا. عُد بعد 15 يوماً. ثم عُد بعد 15 يوماً أخرى. وقّع تعهداً بألا تعمل إلا بعد مراجعتنا. أصدقاؤه يعملون في عمل مسرحي لبناني. كَبسة على البيت تسبّب لهم بها، والكل إلى التحقيق. المحامي أخرج الأصدقاء، فهم ليسوا مسجلين “فنانين”. سلامة يبقى، فهو المحظي بلقب الندامة.. وبات متهماً “بالتستّر” على الرفاق، شريكاً في “الجريمة”.. جريمة اشتباه في عمل مسرحي.

منذ العام 2010 وهو يحلم بتطوير نفسه، حتى قبل أن ينفرط كل شيء، ويخسر العمل ونشاطاته الطوعية: تعليم الموسيقى في مدارس الأونروا وفرقة الأطفال التي أسسها، عضويته في فرقتي “العاشقين” و”إيمار”، وورش العمل الكلاسيك والمودرن والأداء الصوفي، ومبادرات في اليرموك لدعم الأطفال نفسياً، والنساء، ومكافحة العنف الأسري بالمسرح والرقص. الفساد في سوريا، ومحدودية الفرص وانسداد الآفاق لاكتساب جديد، مضافة إلى فلسطينيته التي تربطه بالتراب تحت قدميه، سيّجت أحلامه بجدار عالٍ يعرفه جيداً الفلسطينيون، ليس كل الفلسطينيين، بل طوائف دون غيرها، وطبقات اجتماعية دون أخرى. قبل “الحرب” والمخيم الجائع المسوّى بالأرض، لم تكن طريق البحر مفتوحة. كان هناك “معبر” اليونان، لكنه صعب ومكلف جداً. الآن أسهل.. وأخطر.

أنا سلامة اليرموكي، حفظت درس التاريخ. أي انخراط فلسطيني في أي دولة عربية، ورطة ثمنها غالٍ، في لبنان، في الكويت والعراق وتونس وليبيا والأردن. إن نجحت الثورة أو لم تنجح، نحن ورقة في أيديهم. أما أوراقنا، فمعتقلنا. أينما حللت ستنفيني، والسؤال: من أنا؟ الأوراق، الأوراق، الأوراق… أنال حريتي الثبوتية أولاً، ثم نرى. لكني سأعود، سأؤمن نفسي وأعود… وربما لا أعود. ما أخبار مطار بنغازي؟ ربما أبدّل الحلم بتركيا، أبقى فيها قليلاً ثم أسير بين الجبال إلى بلغاريا. لكن هذه رحلة أطول. الوقت يذبحني، والمال ينفد. بنغازي بوابة نار، لكنها عشرة أيام. عشرة أيام فقط، ثم أعيش. صرتُ أنانياً. قلتُ لها: لازم أسافر، وتجادلنا. الحب أيضاً يُقصف، يُحاصَر، يُهزم، يخردقه ملل الموت. ثم أنّها سورية. عندنا فرصة، إن عبرتُ المتوسط. أريدها. فلتفكّر ما تشاء، أني تخليت عنها، لكنها ما زالت تتصل بي. أطمئنًّ عليك، تقول. أطمئنها، ولا أقول كلام حب. إقامتي اللبنانية صالحة لغاية تموز المقبل… وسأركب البحر.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى