أنا شارلي… أنا لست شارلي/ بيسان الشيخ
ثمة حيرة كبيرة تتجلى بعد تجاوز الصدمة الأولى لاغتيال صحافيين من مجلة «شارلي ايبدو» الفرنسية، بذاك الدم البارد والتخطيط المحكم. مرد الحيرة ليس طبعاً إلى البحث في صواب فعل القتل أو عدمه، فتلك مسألة محسومة، وإن كانت للأسف مثار نقاش واسع في الشارع العربي (وللمفارقة التركي، على ما نقلت وسائل إعلام تركية). فالمذهل أن يكون البعض مقتنعاً بأن الرسامين «نالوا ما يستحقونه» لإهانتهم مقدسات الإسلام، أو أنهم «جلبوها لأنفسهم» إذ لم يتورعوا ويتعظوا من «إشارات» سابقة هي في الحقيقة تهديدات واضحة وصريحة آخرها عام 2011. وذهب البعض إلى أنه «آن لأوروبا أن تذوق ما نتجرعه يومياً من قمع واغتيالات»، وكأن الفرنسيين صوتوا في انتخاباتهم الأخيرة لبشار الأسد أو من شاكله… أما الهذيان التآمري المطلق فالقائل أن الأجهزة الأوروبية جندت الأخوين كواشي وشريكهما لتنفيذ العملية لتبرر لاحقاً تدخلاً عسكرياً غربياً في سورية، على غرار ما جرى بعد 11 أيلول.
ما عاد مجدياً الخوض في نقاش تلك المقولات البائسة، إذ بات واضحاً أن ثمة منطقاً تحليلياً واحداً يتحكم بتفسير الأحداث كلها.
لكن، وبالعودة إلى الحيرة، فمردها إلى تشابك المعطيات «الموضوعية» للحادثة وفق تقارير الشرطة، والنقاشات والمواقف التي نتجت عنها ومنها شعار «أنا لست شارلي»، رداً على شعار التضامن العفوي الأول «أنا شارلي».
بداية، أجمع أكثر من خبير أمن فرنسي على أن الحادثة ليست عملاً إرهابياً تقليدياً، بمعنى أنها ليست مجرد قتل عشوائي لجماعة مستهدفة، وإنما اغتيال مخطط له ومنفذ بحرفية كبيرة تشي بأن القتلة مدربون تدريباً عالياً وواثقون من قدرتهم على إتمام المهمة بهدوء وروية وبلا ذعر يرافق عادة هذه الأعمال. إنهم بلغتنا نحن «صناعة الأجهزة». فهم يعلمون موعد انعقاد اجتماع التحرير، ويعرفون مسبقاً من يحضره، كما يعرفون على ما يبدو أن إجراءات الحماية الأمنية لرئيس التحرير خفّت أخيراً بحيث وجدوا ثغرة يمكن النفاذ منها.
ثمة شعور ثقيل بـ «ديجا فو» (Deja vu) لدينا نحن اللبنانيين الذين واكبنا نعوش كتاب وصحافيين ورجال أمن وسياسيين في العقد الأخير، ونتابع اليوم عن بعد هذه المذبحة التي تعيدنا إلى ماض ليس ببعيد. يزيد في وسواسنا أن أحد الأخوين كواشي، سبق أن حكم في فرنسا بالسجن ثلاث سنوات بعد إدانته بتهمة إرسال مقاتلين متطرفين إلى العراق عبر سورية، وأفرج عنه لأن القوانين التي احترمته وكفّرها، منحته تلك الحرية التي تبين أنه لم يستحقها. أما من جانبنا، فمعلوم جيداً من كان ينظم تلك الرحلات في سورية، ومن يستفيد اليوم من وصول وحش «داعش» إلى عقر أوروبا. هذا مثلاً، منطق تحليلي آخر ينسج خيوط نظرية مؤامرة معكوسة.
إنها الحيرة، ولا شيء سواها.
وهي تتعمق أكثر لدى التفكير في الذين حسموا موقفهم وأعلنوا صراحة أنهم ليسوا شارلي وأنهم مختلفون معه جملة وتفصيلاً. فهؤلاء يرفضون السياسة التحريرية للمجلة الأكثر إضحاكاً واستفزازاً بين الإصدارات الأوروبية الساخرة، حتى اتهمها البعض بالصحيفة اللامسؤولة، لأنها لا تحسب نتائج ما تنشره وأخطاره سواء على فريق العمل أو الغير من مواطنين عاديين قد يدفعون حياتهم ثمن «التحريض» ضد مجموعة من المهاجرين، والإساءة إلى مقدساتهم. وتلك مبدئياً من الشروط المهنية الأولى. فأول ما يفترض أن يفعله المحرر الصحافي الموازنة بين الفائدة والضرر مما ينشر. لكن رئيس تحرير «شارلي ايبدو» كان يملك إجابة حاسمة عن السؤال، فسبق أن قال في مقابلة صحافية: «أنا فرنسي ومقدساتي ليســت مقدسات المسلمين، وهنا أخضع لقانون بلادي الذي لم أخرقه». وإذ يحتمل القول الصواب، يبقى أنه لا يمكن تطبيق معايير الصحافة التقليدية على نمط صحافي هدفه الأول السخرية وتحطيم الأصنام والهياكل، لا بقوة السيف وإنما بالقلم والضحك.
إلا أن ذلك التصريح نفسه أخذه بعض عتاة «الصواب السياسي»، على مقلب آخر واعتبروا أنه عوضاً عن الدفاع عن القيم الفرنسية ذهب إلى إعلاء صوت اليمين المتطرف الكاره للأجانب ومعتقداتهم والرافض لقبول مقدساتهم ولا يتوانى عن إهانتهم بذريعة حرية التعبير. فبمعزل عن الرسوم المعادية للإسلام، كشف كل من ليس «شارليّ» فيها لغة عنصرية، وكرهاً للأجانب ومعاداة للسامية، ومواقف ضد المرأة والمثليين وغير ذلك مما «يشكل جوهر» الثقافة الأوروبية والفرنسية تحديداً في العصر الحديث.
لكن، مهلاً، منذ متى كان «الصواب السياسي» مضحكاً؟ هل لنا أن نستعيد أعداد النكات التي نطلقها ونقهقه لها ولا تراعي الحد الأدنى من شروط الأدب واللياقة؟
وإلى ذلك يذهب كل من ليس شارلي خطوة أبعد، فيعتبرون أن سياسة التحرير في المجلة التي أطلقها مناخ اليسار الستيني، وحركات النضال والتحرر، ونشرت بدورها تلك القيم التقدمية، انقلبت اليوم يمينية محافظة، لا هم لها سوى تحقير المهاجرين.
… وهل لا نزال في الستينات؟ وهل اليسار لا يزال يساراً كما كان قبل نصف قرن أم أن البعض الكثير من خطابه بات أشياء أخرى؟
الواقع أن ما لم يتم الانتباه له وسط هذه الضوضاء أن شعار «أنا لست شارلي» يحمل أيضاً شيئاً من مخاطبة المسلمين بلغتهم. كأنما هناك من يريد أن يقول لهم: لستم كلكم «إرهابيين»، ولسنا كلنا «عنصريين»، وفي ذلك محاولة مد جسر يجب أن يعبره العرب والمسلمون الحريصون فعلاً على تمييز أنفسهم عن أصحاب الخطاب الأول.
ولا يتم ذلك بتبني الشعار نفسه، والقول «أنا أيضاً لست شارلي». نحن بالتأكيد لسنا شارلي وتفصلنا عنه سنوات ضوئية. فما يحق للفرنسي قوله في هذا الشأن، لا يحق لنا نحن وإن رغبنا ضمناً بتبني ذلك الموقف النقدي. وليس ذلك تقليلاً من شأننا، بل لأننا لم نحطم أصنامنا بعد، ولا فصلنا الدين عن الدولة ولا أنجزنا إصلاحات في المؤسسة الدينية والسياسية، ونقاشاتنا في العنصرية وحرية التعبير وغيرها لا تتعدى كونها عملاً مضاداً نرشق به الآخر، ولا نبني عليه.
الآن، كيف نحسم موقفنا سريعاً من أسئلة تتجاوز بساطة النقاش الدائر حول حرية التعبير والمس بالمقدسات وقبول القتل أو رفضه؟ إلى أن نبدد الحيرة، ربما يفيدنا الاكتفاء بأن نقول «أنا شارلي».
الحياة