أنا فيلم/ ستيفان واتس
أنا فيلم
غابةُ التَّنوبِ الأحمر تحترقُ في داخلي
ذهَبُ أحشائي بحيرةٌ متجمِّدة من المطر
الشَّجرةُ في عيني عمرُها ألفُ عام
أنا فيلم. بَشَراتُ
حلُمي هي جلودُ خمسة وأربعين جاموساً
مبولةُ الجنَّة راتنجٌ احترقَ حتى صار هباءً.
أنا فيلم.
رتلٌ أسود من الرُّحَّل في مسير على ثلجِ الشتاء
بقيةُ كابوس في باطنِ جبلٍ من رماد
شاةٌ منهارةٌ أطعموها المشمشَ عالياً فوق نطاق الشجر
تنقُّلُ الراتنج داخل ثلوجٍ رخوةٍ من زمانٍ دامٍ كالتُّوت.
المنيُّ الدائخُ لظلالِ الأسلاف
أنا فيلم. أنا كفَنٌ
على وجه فتاةٍ تحاصرُها الرتابة.
أنا كَفنٌ وضعتْهُ أحابيلُ البُلهاء السياسيين.
أنا المكانُ الرثُّ حيث لا يمكن للنفَس أن يتفسّخ.
أنا السَّبيلُ حيث لم يكن من سبيل قط.
أنا فيلم.
أنا حليبُ النَّعجة المُباعُ من البَسْطة
أجبانُ اليأس في أخاديدِ الفودكا
السجلّات متروكة على السُّطوح لتجفّ
المواظبةُ على الاختيار من دون معرفة السَّبب
الكلماتُ التي تتشكّل في لمعانِ الكبد
معكوسُ الجُرحِ البليغ في الكوخِ على حافةِ الطريق
هذه لغةٌ تتشكّلُ وسط الحشا
أنا فيلم.
أنا الرومي متسلِّقاً ليدخلَ عبر جداري عديم النوافذ
أنا ريلكه الذي يلتقيني أعلى بئر السُّلّم السَّحيق
أنا مارينا التي تحدّقُ عبر عينيَ موصَدةِ العدسَة
أنا جيباناناندا طوّحتْ به حافلةٌ عالياً خارج الجحيم
أنا ثيساره باييخو في زنزانةٍ ما خلاسيةٍ محروقة
أنا شايريل أنور في أعلى ناطحة سحاب
أنا يأسٌ على يأس يحتقرهُ المتسلّقون
أنا فيلم.
أنا الشَّمسُ تُرى عبر بطنِ حصان
أنا مُهرٌ لم تولِّده ممرّضةُ الفرَسِ الحمراء
أنا طَوْفٌ في منحدراتِ النَّهر، لعنةٌ في الفيضانات
أنا دِنانُ فودكا ابتلعتْ وحولاً تتوالى
أنا القمرُ الذي يسقطُ في وعاءِ الحساء العميق
أنا معنى المعنى، عناءُ
العناء، علمُ جبْرِ اللغة.
أنا فيلم.
بِساطُ اللون وبِساطُ الحلم
خمسةُ أطفال صغار في مرجٍ من شقائق النعمان
قاعةُ مدرسة تعجُّ بالماعز على شاشةِ خيمةٍ زرقاء
خمسةُ أطفال صغار يستيقظون ويصرخون
خمسة وأربعون بساطاً منشوراً ليجفّ بجانب سَيْل
أسمالٌ ملوَّنة رُبِطتْ إلى الأشجار
أنا فيلم.
أنا رَتَمٌ يحترقُ في هواءٍ بلونِ جوز الهند
قنازعُ العاصفةِ الزاحفةِ في الغيبوبة فوق السِّباخ
جزرٌ كأسنانِ القرش عبر بحرٍ مُستنَزَف
فلاحون مرحَّلون تحت راية الاحتكار
حشودٌ تلو حشود من ريفيين[1] منفيين
دروبٌ إلى مراعي الصيف مغمورة بالحشيش
نتفٌ من أغنيةٍ في لسانٍ أبكم.
أنا فيلم.
جبالٌ عمرها أربعةُ بلايين عام مرئية من طائرة
لغةُ راعٍ يتقاسمها خمسة عشر رجلاً
كَونٌ بأكملهِ يدورُ في بركةِ ماء
مهبلٌ خانَتْه حمّالةُ جورب حمراء وحيدة
هذه لغةٌ تصعدُ من الشريان الأبهر
أنا فيلم.
مخروطٌ خشبيّ لصنعِ الفحم
دخان يصّاعدُ من قريةٍ فرغتْ
فصلٌ يختلِجُ في طقسٍ لم يكتمِلْ
جدران الرعد في رحلةِ ثلجٍ ملحمية
عَهْدٌ واحدٌ حارّ لا يكفي أبداً
أنا فيلم.
أطفالٌ. قلادةٌ
من حربٍ ما أتَتْ بعد.
شظايا. خرائب. مدينةٌ أعيدَ بناؤها.
عشرة آلاف جادَّة عصية على الفهم.
في خضمِّ هذا العالم المكرور
الصاعقِ بمحضِ ترفه.
بالفطرة رفضنا ندوبَ
زمنٍ يُساءُ تذكُّره.
ذاكرةٌ تتقرّى ندوبَها.
كأنّ لَبَناتِها قد محاها الهواءُ.
كأنَّ الطفلةَ الأرقَّ
ستذرفُ حياتها العزيزة.
كأنّ الحدائقَ المعلَّقة
لم تعُدْ معلَّقة في زمانٍ أخضر.
كلُّ الترّهاتِ الناقمة
للأيامِ العصيبة احترقتْ واستحالت عدماً.
أنا فيلم.
يا لها من وجوه نقية، يا لها من طاقاتٍ
مقنَّعة، يا لها من رؤى منحرفة.
يا ابتسامةَ
ملاكٍ في جنينِ العالم
يا ابتسامةَ الملائكة هنا في آونتِنا.
كوميتاس المجنون لم يصنعْ فيلماً قطّ
لكنه لم ينقطعْ قطّ عن صناعة فيلم.
كانت حياتهُ سهلةُ القِياد كلُّها التزاماً
واحداً لا يتزعزع بفيلم،
ببَكَرةٍ سوف …
….
أو عندما تُدني عينك
كثيراً من زهرةٍ لا يعود
بوسعك أن تتبيّن
سوى غبشٍ من الزُّرقة والشكل.
لكن خيوطها الرفيعة، سداتها
لا تزال موجودةً هناك، نموّاً
معجِزاً للكائنِ المكتفي بوجوده فحسب.
نماذج عالمية خارقة:
ذاك الذي صُنِعنا منه.
أو مثل كنيسةٍ صغيرة في الجبال
تتمرأى وثلوجَ الشتاء.
أو مثل دوّامة مدهشة
من الورق الرقيق تصنع منه فأرةٌ
عشَّها، أكثر تعقيداً من أيّ
بنيةٍ رياضية في أرضنا،
مصنوعاً بالغريزة والثقة وحدهما.
صُنْتُ مثل هذه الأعشاش في بيتي
إلى أن احترقتْ بالصدفة
في شتاءات الانبعاث الباردة.
ما الفيلم إلا شعرٌ عاديّ
لأن الشعر في جوهره
عاديّ: لا يزال المبتذَلُ
عدّةَ خبزنا اليوميّ.
عرف بازوليني ذلك: لكن مَنْ
يعرف بازوليني في هذه الأيام.
في أيام التوحُّد والنسيان هذه.
مَن يعرفُ الدافعَ الملحّ لغضبه[2]
ظروفَ نقمتهِ الملحّة
وإن كنّا نحتلُّ مدناً نهِمة
ونحاول أن نبثّ الطاقةَ في خياراتٍ جديدة.
عرف بازوليني أن الشِّعرَ عمل.
أقول لكم إن الفيلم هو الأكثر إلحاحاً وتطرُّفاً في عاديّته.
الفيلم شعرٌ نقيٌّ في عالمنا جميلِ الدنَس.
نموذج دوّامة في أعمق تلافيفِ دماغنا.
ألسنةٌ مشرَّدة تُثني المعاني عبر الجدران.
النساءُ اللاتي يستطعن اختراقَ أيّ جدار من دون ثغرات.
النساء اللاتي يستطعن نقْضَ أي سلام يضلّلنا.
خطٌّ متعرّجٌ من طاقةٍ خاثرة في ملتقياتٍ صغيرة مستأجرة.
دثارٌ من ثلوج داكنة تدنو فوق السبخات.
لغةٌ تشوَّهتْ في ثنايا عالمنا مريرةِ الضيق.
عاصفةٌ ثلجية ضارية في مثل هذه الجبال الجديرة بالرثاء.
أقول لكم إن الفيلم هو العاديُّ الأكثرُ إلحاحاً وتطرُّفاً.
تعيش عجوزٌ السنةَ بأكملها في بيتٍ جبلي عارٍ طوال عمرها.
بطؤها خميرةٌ حيوية لمستقبلنا المحتمل.
أسواقُ الرمّان والفِلفل تحت مطرٍ مدرار.
كم من مستقبَلٍ قُويض به شحمُ الحيتان في المدن العظيمة.
كم من استهزاء ابتُلِع مع قهوةٍ رديئةٍ بالحليب في الصيف.
………………………………………………..
أقول لكم إن الفيلم هو العاديُّ الأكثر إلحاحاً
أنا فيلم.
كانت حرب حصار.
أكلوا أوراقَ الأشجار.
ذئابٌ بيض طوَّقتِ المنازل.
سُوِّيتْ بالأرضِ جميعُ القرى والبلدات المحيطة.
رجالٌ مقنَّعون رفعوا عالياً رؤوساً مقطوعة.
عوالم مطلقةٌ من الفهم لا
توافقُ البتةَ أخلاقاً سياسية لقتل الإخوة الفجّ.
ترامتْ مدينةُ الشمس في صحارى حمراء.
جادّاتٌ هادئة استحالتْ أنقاضاً قذرة.
أطفالٌ صغار يصرخون بأصدقائهم.
نحن التوّاقون إلى الهدوء الغنائي للشجاعة.
نحن الذين تعلّمنا الاستهزاء بالفداحة المحاصَرة.
نحن الذين سحرْنا الطيورَ فهبطتْ من
الأشجار. أنا لغتي.
لغتي هي أنا.
أنا فيلم.
عندما مررتُ قرب المدينة في الصَّحراء.
عندما مررتُ قرب الضغائن في مجلس الشيوخ.
عندما هذرتُ مستعجلاً الهواءَ في أمعائي.
عندما شوّهتُ ما هو مهمٌّ في الاستثمار.
عندما بالصدفةِ حظيتُ بصورةِ سيلفي لجريمةِ قتل.
عندما تقيّأتُ تخمةَ أسيادي.
عندما قلتُ إن الشعرَ عملٌ كلُّهُ مكْرٌ.
عندما المدينةُ التي مررتُ بقربها فجّرتْ نفسها
ولم يُسجَّلِ الباعثُ على وجودها.
مدينة الشَّمس التي تنفجر في الصباح.
عالمان مختلفان من الفهم.
مدينة الشَّمس البيضاء!
أنا فيلم.
***
شتاء 2016، كنا أنا والشاعر الإنكليزي ستيفان واتس نترجم معاً متوالية نثرية كتبتُها بعد المعرض الاستعادي لبيل فايولا في القصر الكبير في باريس، حين استوقفتْ ستيفان هاتان الجملتان: “لستَ فيلماً وثائقياً. أنت لوحة”، فسألني: “أتعلم أنني قد كتبتُ قصيدة طويلة عنوانها “أنا فيلم”؟” حينذاك، كان يشتغل على هذه القصيدة التي قرأها مؤخراً في أمسيتنا معاً في مكتبة الشعر اللندنية، حيث ألقاها وهو يكاد يقف على رؤوس أصابعه، بعد أن خلع صندله على المنصة، ناحتاً بأنفاسه المشحونة كل عبارة.
يقول ستيفان إن مدينة الشمس البيضاء في هذه القصيدة هي حمص التي لم يزرها حين زار سورية صيف 2010. رآها من بعيد، على الطريق بين طرطوس ودمشق، ثم شهد عن بعدٍ آخر دمارَها اللاحق. هذه القصيدة العاصفة تضجُّ بصورٍ ومشاهد يكاد يتعذّر اختزالها أو الإشارة إلى منابعها جميعاً. قد نذكر، تمثيلاً لا حصراً، أفلام باراجانوف ومحسن مخمبلاف وكوميتاس، لكني أعلم أن الشاعر هو الذي أطعم الشاة المنهارة مشمشاً في أعالي جبال الألب الإيطالية حيث قرية أجداده الذين هاجروا إلى بريطانيا منذ أكثر من قرن، وهو مَن رأى عشاً فاتناً لفأر، أجمل من أجمل زهرة، يتلولب مثل درويش يرقص، إذ كان الفأر قد عشش في مكتبة الشاعر، فرعاه طويلاً إلى أن أحرقه سهواً في ليلة شتوية، أثناء إشعاله بأوراق قديمة موقدَ بيته في شرق لندن.
لا أحد يرى الشعر عملاً، ولا الحكومات تقرّ به عملاً، وإن دفعت للشعراء شيئاً فليعيشوا كأشباه متسوّلين سيبقى دخلهم، مهما كدحوا، قليلاً أو شبه معدوم. مستلهماً غضب بازوليني، يقول ستيفان واتس “الشعر عمل كلّه مكر”، فيعيدنا إلى ما قاله الحطيئة: “الشعر صعب وطويل سلّمه”.
جولان حاجي
[1] contadini: تطلق هذه الكلمة الإيطالية على فلاحين فقراء يهاجرون أو ينزحون.
[2] الفيلم الوثائقي rabbia [الغضب] لبازوليني.
المترجم: أماني لازار و جولان حاجي
ضفة ثالثة